Alqenaei

الرئيسية » المكتبة » معركة الجهراء ما قبلها وما بعدها

معركة الجهراء ما قبلها وما بعدها

بدر خالد البدر

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الإهــــــــداء

 

يسعدني أن أهدي هذا البحث المتواضع إلى شهداء وطننا الأبرار الذين ضحوا من أجل وطنهم وأهلهم وذويهم، سواء من سقط منهم في ساحات القتال أو من قضى نحبه في الصراع الرهيب مع قوى الطبيعة القاسية في الصحاري المقفرة أو في أعماق البحار المظلمة. لقد كانت حياتهم كلها كفاحاً متواصلاً في السلم وفي الحرب. وإذ نحن نستعيد بعض تلك الذكريات المشرفة أفليس الأجدى بنا أن نعيد النظر في ما وصلنا عليه بعد أن تبدلت الأحوال وتغيرت المفاهيم وخفت الموازين. وأن نأخذ من الماضي عبرة فنحافظ على البقية الباقية مما ترك لنا الأولون من عادات وخصال حميدة كانت يوماً ما مضرباً للأمثال فنتحصن بها ضد عادات وطباع غريبة وافدة لا تنسجم مع ما نشأنا عليه وتعودناه، فتسكن وتطمئن أرواح أولئك الأبرار. {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون} صدق الله العظيم.

المقدمـــة

  عندما تفضل حضرة صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح وشمل برعايته سباق الخيل من الجهراء إلى الكويت عام 1977، وكان سموه في ذلك الوقت ولياً للعهد، فإن تلك الرعاية الكريمة كانت ترمز إلى عواطف نبيلة ومعان كثيرة منها تقدير وإحياء ذكرى أولئك الأبطال الذين صمدوا في وجه الطغيان والعدوان وموجة الجهل والتعصب وذلك دفاعاً عن وطنهم وأهلهم وشرفهم وكان بين أولئك الصامدين اثنان من الفرسان الأبطال قاما بمغامرة أسطورية حيث اخترقا الحصار المضروب على القصر الأحمر عندما فتحت أبوابه بطرفة عين فانطلقا على جواديهما كالسهام المارقة وشقا صفوف الأعداء المحيطين بالقصر متجهين نحو مدينة الكويت طالبين المدد والنجدة من إخوانهم المرابطين عند الأسوار الداخلية للمدينة إلى المحاصرين في القصر الأحمر. هذان البطلان هما مرشد بن طوالة الشمري ومرزوق بن متعب بن عبدالكريم ومن المؤكد أن نجاح تلك المغامرة قلب استراتيجية المعركة وحولها إلى صالح الكويت، حيث رفعت من معنويات الجماعة المحاصرة داخل القصر كما ثبطت عزيمة القوات الغازية ونشرت بينهم روح البلبلة والتردد وجعلتهم يحسبون حساب النجدات التي لا بد أنها آتية، وقد تبدل الحال فعلاً وجاءت الأمور بما لا يشتهي الأعداء كما سنرى (لقد كان الشيخ عبدالله الجابر الصباح المستشار الخاص لحضرة صاحب السمو أمير البلاد على رأس المحتفلين بيوم السباق وقد أدلى بحديث إلى جريدة (الفروسية) الأسبوعية أشاد فيه بشجاعة الفارسين البطلين وأهمية المغامرة الفذة التي قاما بها من أجل فك الحصار عن القصر وقد اشترك الشيخ عبدالله في معركة الجهراء وكان من بين المحاصرين داخل القصر -جريدة الفروسية الأسبوعية- العدد 58 – تاريخ 13/11/1977). وبينما كانت الصحف ووسائل الإعلام من تلفزيون وإذاعة تنشر أخبار ذلك السباق في أواخر عام 1977 وإذا بالفكر يسرح في الماضي البعيد وإذا بي أستعيد ذكريات بعض تلك الأحداث أيام طفولتي من بناء السور إلى تلك الليلة السوداء التي لعلع فيها الرصاص فجأة وبكثافة وانتشرت الإشاعات بأن الغزاة من (الإخوان) اقتحموا سور الكويت الذي تم بناؤه في تلك الأيام وارتسمت في مخيلة الجموع الخائفة خاصة من النساء والأطفال صور البطش والقسوة التي اتصفت بها حروب تلك الأيام من قتل ونهب وسلب وعمت الفوضى داخل المدينة وهجر بعض الناس بيوتهم بحثاً عن مكان أكثر أمناً وكنت أنا وجدتي لأمي وحدنا في البيت ولم أكن قد أكملت الثامنة من عمري في ذلك الوقت. كان الليل في أول هزيعه وكانت ليلة مظلمة موحشة، وخرجت وجدتي من البيت وهي ممسكة بيدي بقوة مارين بتلك الأزقة المظلمة وكانت وجهتها بيت الشيخ يوسف بن عيسى القناعي حيث كانت والدتي هناك مع قسم كبير من العائلة وكنا ونحن في الطريق نشاهد عند أبواب المنازل بعض النساء والأطفال وقد ملأ الرعب قلوبهم. وفجأة يتوقف إطلاق الرصاص، وتأتي الأخبار المطمئنة بأن إطلاق الرصاص كان من بعض بدو الكويت الذين اشتركوا في المعركة وقد عادوا ومعهم بعض الجرحى وقد ظنهم المدافعون عند السور بأنهم من الأعداء فتبادلوا معهم إطلاق النار لفترة قصيرة. هذه الذكريات التي أثارها السباق المشار إليه أذكت عندي الرغبة في تدوين ما علق بالذاكرة في تلك الأيام، كما رأيت أن من الفائدة أن أتوسع في البحث وقد سبق لي الاطلاع على الكثير من المصادر حول هذه الأمور وأشباهها مما كان يجري في تلك الأيام وبعدها كذلك ما سمعته من شهود عيان. وبما أن لكل حادث هام مسببات تسبقه ونتائج تعقبه ثم تصبح حقائق ثابتة نتيجة لما حدث. لذا كان لا بد للباحث من أن يعود للمسببات، فمن حق القارئ أن يلم بالموضوع من جميع أطرافه وقد بذلت ما أستطيع من جهد للاطلاع على كل ما وقع تحت يدي من مصادر عربية وأجنبية وما ذكر فيها من حجج وحجج مضادة لجميع الأطراف المعنية وآراء الأشخاص الذين أرخوا لها وقد نسبت كل حادثة أو رواية إلى مصدرها كما أبديت رأيي في بعض الأمور، كما دونت آراء بعض من شهدوا المعركة أو أرخوا لها. كما دونت آراء بعض من شهدوا المعركة أو أرخوا لها. وعلى القارئ اللبيب أن يستخلص الحقيقة حسب إدراكه واجتهاده. وإني إذ أقدم هذا البحث المتواضع فإني أعترف بالتقصير الذي لا يمكن تحاشيه مهما حاول الإنسان التقرب من الكمال الذي هو لله وحده، وقد كانت النية أن أدرج موضوع الجهراء في الكتاب الذي بدأت أدون فيه أهم ذكريات الماضي والذي سميته (مع قافلة الحياة) ولكني وجدت أن موضوع الجهراء اتسع وتشعب حسب تسلسل الأحداث مما أوجب التفكير في جعله في كتيب منفصل، حيث تداخلت الأمور بعضها في بعض ورأيت أن من الفائدة إحاطة القارئ علماً بكل ما اقترن بموضوع الجهراء من طرافة أحياناً ومن مآس وفواجع أحياناً كثيرة. وحسب اعتقادي بأن الشيء الذي يستحق الاهتمام هو التوقف عند حياة البداوة وشح الطبيعة وقسوتها وقابلية الإنسان للتكيف والتطبع ملائمة للظروف مهما اشتدت قسوتها وقد جاءت تلك الحروب التي عرفناها منذ أيام الجاهلية كنتيجة طبيعية لحالات معيشية و اجتماعية أملتها ظروف معينة مع ما أقترن بها من عادات وتقاليد نبعت من طبيعة المنطقة. والآن وقد ذهب ذلك النوع من الحروب إلى غير رجعة فلم يبق مجال للخيل والليل والبيداء كما يقول المتنبي ولا حتى السيف والرمح. ومهما اتصفت به تلك الحروب من شدة وقسوة فإنها أشفق وأرحم من حروب هذه الأيام وما بعدها وقانا الله جميعاً من شرورها آمنين. وقبل أن أختم هذه المقدمة لا بد من الإشارة بأن هناك معلومات وتقارير كثيرة تتعلق بتاريخ بلادنا موزعة ومدونة في سجلات الدول التي كانت لها علاقات ومصالح بالمنطقة وما نشر منها حتى الآن ما هو إلا أقل من القليل. وتتبع مثل هذه الأمور يحتاج إلى تخصص ومثابرة وصبر وطول أناة. لهذا فإني أهيب بالشباب المثقف من أبناء العروبة عامة وأبناء الكويت خاصة بأن يبذلوا المستطاع من الطاقة من أجل البحث عن تلك الكنوز المطمورة من المعلومات المدونة في سجلات تلك الدول والتي أصبح الاطلاع عليها مباحة للدارسين والباحثين، بعد أن فقدت تلك المعلومات طابعها السري بمرور الزمن. وقد يجد الباحث في تلك الوثائق معلومات جديدة وحقائق ربما تختلف عن بعض ما هو شائع ومتداول الآن. فالبحث عن الحقيقة هو الهدف الأمثل. وفوق كل ذي علم عليم والله ولي التوفيق. بدر خالد البدر الكويت في: 25 جمادي الأولى 1400هـ 11 إبريل (نيسان) 1980م

الجهراء قديماً وحديثاً

والحديث عن الجهراء يجر إلى الحديث عن كاظمة حيث لا يمكن فصل الإسمين أو الموقعين عن بعضهما البعض ومن الثابت والمؤكد أنهما اسمان لمكان واحد كما تدل كل المعطيات التاريخية والجغرافية التي تتحدث عن المنطقة ولا أريد هنا أن أعيد وأكرر ما ذكره اثنان من أبناء الكويت في مؤلفين لهما أولهما السيد أحمد البشر الرومي الذي نشر مقالاته في كتيب عام 1966 وتطرق فيه إلى موضوع كاظمة والجهراء بإسهاب والثاني هو السيد يعقوب يوسف الغنيم وكيل وزارة التربية حالياً بكتابه المسمى “كاظمة في الأدب والتاريخ” والذي صدر عام 1958 وحيث أني أفترض أن الكثيرين من القراء لم تسمح لهم الظروف بالإطلاع على هذين الكتابين، فأود أن أشير بإيجاز لبعض ما جاء فيهما وفي غيرهما من المراجع التي اطلعت عليها إتماماً للفائدة. لقد جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي ذكر كاظمة في عدة مناسبات وأنها على الطريق بين البحرين والبصرة كما ذكرها الهمداني في كتابه “صفة جزيرة العرب” وفيما ذكره أن سفوان (سفوان أو صفوان مركز نقطة الحدود العراقية المقابلة لحدود الكويت في منطقة العبدلي) وكاظمة هما حدود جزيرة العرب من الشرق. كما ذكر كاظمة بعض شعراء العرب وسموها كاظمة البحور لقربها من البحر ولتميزها عن موقع آخر بهذا الاسم بالقرب من المدينة المنورة. وكانت قبيلة بني تميم المشهورة تسكن في المنطقة وقد تغنى شاعرهم المشهور الفرزدق وغيره من الشعراء بكاظمة في مناسبات عديدة. ومعركة “ذات السلاسل” المشهورة بقيادة خالد بن الوليد وجيوش الفرس بقيادة هرمز سنة 12 للهجرة والتي كما هو معروف انتهت بانتصار المسلمين وفتح العراق وبناء مدينة البصرة فيما بعد وذلك في عام 15هـ في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه. إن أي موقع إستراتيجي بهذه الأهمية لا يمكن أن يشتمل على مكان محدود لكاظمة كما نعرفها اليوم. حيث من المؤكد أن تكون المنطقة بأسرها بما فيها من آبار المياه في الجهراء التي لها أهميتها في سوق الجيوش وطرق القوافل وجميع التحركات الصحراوية على كافة المستويات هي كاظمة كما كانت تعرف في تلك الأيام. ولنعود إلى إسم الجهراء ثانية حيث ذكرها الرحالة الدنماركي والألماني الأصل كارستن نيبور عندما زار الخليج ورسم خارطة له في عام 1765م. فقد أشار إلى المكان بـ “خرائب الجهراء”. أما بعض الخرائط الأجنبية الأخرى القديمة فقد ذكرت كاظمة أو خليج كاظمة ولم يأت ذكر الجهراء. أما كتاب “لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب” والذي كتبه حسن بن جمال بن أحمد الريكي عام 1233هـ والذي حققه الدكتور أحمد أبو حاكمة وطبع عام 1967م فقد جاء في الصفحة 154-155 ما يلي “وأعلم أيضاً أن العدان وهجر وقطر وكلها من أرض بني خالد وقد عرفت طولها بالحد المذكور من الكويت إلى خيران بني ياس فنخبرك أن من وراء الكويت إلى جانب الغرب عنها بيوم الجهرة وهي على ساحل البحر بفرسخين إلى جانب الغرب مائلاً إلى القبلة وأرض الجهرة عالية جداً بحيث كل من كان فيها يرى السفن التي تتردد على البحر الذي يحاذي الكويت والذي في فيلكة. وقد كانت الجهراء في عصر الجاهلية قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم بسنين تبلغ مائة، في غاية العمران وهذه آثارها تدل على عظمتها اليوم. فإن فيها خرابات كثيرة من البنيان، وربما وجدوا ذخاير من الدراهم والدنانير في بعض المواضع، وهي أرض طولها فرسخان شمالاً وجنوباً وعرضها فرسخ غرباً وشرقاً. بنتها التمام غالباً وأرضها من قبيل حصص البحر وفيها مياه عذبة وبئرها قدر باع واحد، وحولها من جميع الأطراف أرض سبخة على فرسخين من جانب الشمال حتى تصل بسنام وإلى الشرق حتى تصل البحر كذلك. وإلى جانب الغرب إلى جهة القبلة قليلاً أرض السبخ، قدر فرسخ وإلى الجنوب نحو الكويت تبلغ نصف فرسخ” انتهى. ومما جاء ذكره أعلاه فإنه أصبح من الواضح أن كاظمة والجهراء اسمان أطلقا في فترات من الزمن على موقع واحد وهذا شئ طبيعي يحدث ويتكرر في كل زمان ومكان. وقد حدث هذا للكويت فهناك تقارير ومخطوطات وخرائط تشير إلى “القرين” بدلاً من الكويت (بعض مراسلات وتقارير شركة الهند الشرقية تشير إلى شيخ القرين عندما يأتي ذكر الشيخ عبدالله بن صباح الحاكم الثاني للكويت 1762–1814) ثم تكرر الاسمان على بعض الخرائط ومنها خارطة (كارستن نيبور) المشار إليها إلى أن غلب اسم الكويت وطغى على الاسم الآخر واستدل على ذلك بمخطوط اطلعت عليه عند المرحوم الشيخ يوسف بن عيسى القناعي والمخطوط مضى عليه أكثر من مئتي سنة ويذكر كاتبه اسمه كالآتي “تم الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه على يد الفقير عثمان بن علي بن محمد بن سري الجناعي نسباً والشافعي مذهباً والقرين مولداً (بيت بن سري هو البيت الذي تنتمي إليه عائلة البدر وعائلة العيسى من القناعات).   ويتضح مما تقدم بأن الكويت راسخة القدم في التاريخ البعيد وليس كما عرفها بعضهم مع تدفق النفط. فقد ارتوت جيوش المسلمين من آبار الجهراء عند زحفهم على العراق وبلاد فارس كما رست قبل ذلك أساطيل الإسكندر في جزيرة فيلكا عند عودتها من حملة فتح الهند كما تشهد بذلك آثار الجزيرة التي اكتشفت عام 1958. أما تاريخ الكويت الحديث فقد بدأ في النصف الأول من القرن الثامن عشر عندما انحسر نفوذ بني خالد عن المنطقة واستطاع التجمع القبلي المسمى بالعتوب أن يتحرروا من نفوذ بني خالد وأن يؤمروا عليهم بعد ذلك صباح بن جابر أو صباح الأول كما ير فيما بعد، وذلك حوالي عام 1756 للميلاد. وقد أكدت جميع المصادر التاريخية العربية منها أو الأجنبية هذه الحقيقة. لقد برزت أهمية الكويت في ذلك الوقت كمركز للتجارة ما ورد منها من البحر أو البر نظراً لمركزها الممتاز على رأس الخليج ومينائها العميق الصالح للملاحة واهتمام سكانها ببناء السفن سواء ما كان منها لنقل البضائع أو ما خصص للغوص على اللؤلؤ في السواحل الكويتية أو مغاصات الخليج العربي الأخرى. كذلك فان النهضة الصناعية التي شملت أوربا مع البحث عن أسواق جديدة للتبادل التجاري التي تحول إلي البحث عن مناطق نفوذ للدول العظمى. كل هذه الأسباب مجتمعة أظهرت أهمية الكويت كمركز تجاري واستراتيجي وكانت الكويت لقربها من ميناء البصرة الهام تقوم بنفس الدور ولو على نطاق أقل لا سيما عند حدوث الأزمات في جنوب العراق وأحد الأمثلة على ذلك هو عندما احتل الفرس البصرة لمدة ثلاث سنوات من 1766م الى 1779م حيث انتقل قسم كبير من تجار البصرة الى الكويت بالنظر لما كانت تنعم به من طمأنينة وأمان في ذلك الوقت كما ازدادت أهمية الكويت الاستراتيجية والتجارية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عندما بلغ تنافس الدول على مناطق النفوذ ذروته وكان ذلك أيام تولي الشيخ مبارك دفة الحكم في الكويت كما سنرى في الفصول القادمة.

مبارك وابن السعود

عندما تولى الشيخ مبارك السلطة في عام 1896م كان الأمير عبدالرحمن آل السعود وابنه عبدالعزيز وبعض أفراد العائلة مقيمين في الكويت وذلك نتيجة للخصام الذي حدث بين عائلة آل السعود أثناء حكمهم في الرياض حيث استغل أمير حائل محمد بن الرشيد تلك الخصومات واحتل الرياض ونصب عليها أميرا من عنده فاضطر الأمير عبدالرحمن أن يرحل ويأتي لاجئاً إلى منطقة الخليج ثم الى الكويت وذلك عام 1359هـ 1891م وكان الأمير عبدالعزيز في الحادية عشر من عمره في ذلك الوقت. ولنترك الأمير الشاب قابعاً مع عائلته في أحد بيوت الكويت المتواضعة ونتجه نحو الشيخ مبارك الذي بدأ في صراع مع الأحداث منذ توليه السلطة ولكنه استطاع بدهائه ورباطة جأشه أن يتحدى المشاكل المحيطة به وقد طلب من الانجليز في بداية حكمه أن يعقدوا معه معاهدة حماية وصداقة شبيهة بتلك المعاهدات التي عقدتها بريطانيا مع شيوخ الخليج ولكن بريطانيا ترددت في تحقيق رغبته تجنباً لإثارة الشكوك بينها وبين الدولة (العلية) العثمانية حيث كان لبريطانيا نفوذ كبير في جنوب العراق بالاضافة الى سيطرتها الكاملة على الخليج. وكانت مكتفية بهذا القدر من النفوذ على حساب الدولة العثمانية. وتمر الأحداث بسرعة وتشعر بريطانيا أن من مصلحتها الاتفاق مع مبارك بعد أن تبين لها قدرته الفائقة على الصمود في وجه التحديات مع ظهور التصدع والتخلخل في نفوذ الامبراطورية العثمانية في المنطقة بصورة لا تدع مجالاً للشك بعد أن استمرت أربعة قرون عن طريق القوة العسكرية مدعومة بالنفوذ الديني حيث كانت اسطنبول أو الأستانة عاصمة الخلافة الإسلامية والتي يجب أن تكون عاصمة جميع المسلمين. لقد استطاع مبارك في خضم تلك الظروف أن يشق عصى الطاعة على الأتراك محافظاً على شيء من النفوذ الاسمي لحفظ ماء الوجه وحتى لا يقال بأنه أدار ظهره للمسلمين وبدأ يتعاون مع (الكفار) كما كان ينظر لغير المسلمين في ذلك الوقت وهكذا رأت بريطانيا أنه حان الوقت لأن تعيد النظر في علاقتها مع الشيخ مبارك بعد أن ظهرت التحديات لها في المنطقة فألمانيا تريد مد سكة حديد برلين بغداد التي ستصل إلى الكويت في مرحلتها الأخيرة كما بدأت روسيا القيصرية تدلي بدلوها في المنطقة بسبب نفوذها وعلاقتها المتينة مع إيران أو بلاد فارس كما كانت تسمى آنذاك، وذلك من أجل الوصول إلى المياه الدافئة من الخليج، وهكذا رأينا بريطانيا تسارع إلى عقد المعاهدة مع الشيخ مبارك عام 1899م كما هو معروف بعد أن كانت مترددة طيلة أربع سنوات منذ بداية حكمه وقد ظلت بنود المعاهدة سرية إلا أن تركيا عرفت بها فيما بعد فاستشاطت غضباً ولكنها أعجز من أن تقوم بأي عمل ضد مبارك أو ضد بريطانيا واكتفت بأن يستمر الشيخ مبارك يرفع الراية العثمانية فوق قصره اعترافاً (بولائه) للدولة العلية (لقد طلبت بريطانيا من الشيخ مبارك -كما يقول لوريمر- أن يبدل علمه ولكنه فضل إبقاءه على حاله على اعتبار أنه رمز إسلامي على الرغم من المضايقات التي كانت تلقاها السفن الكويتية من السلطات الإيرانية عند مرورها بموانئها، وعندما أنزل الإنجليز قواتهم في البصرة في بداية الحرب – نوفمبر 1914 الذي أدى إلى انسحاب الأتراك من منطقة شط العرب، أبدلت الكويت علمها بعلم قاعدته حمراء كتبت داخلها كلمة (كويت) باللون الأبيض واستمر رفع هذا العلم على السفن الكويتية والدوائر الرسمية حتى عام 1962 حيث تم إبداله بالعلم الحالي ذي الألوان الأربعة تمشياً مع قول الشاعر: بيض صنائعنا خضر مرابعنا سود وقائعنا حمر مواضينا) ثم يأتي عام 1913 وتعقد بريطانيا وتركيا اتفاقيتها المشهورة في المنطقة والتي حالت الحرب العالمية دون التصديق عليها نهائياً والتي بموجبها تم تحديد منطقة نفوذ الشيخ مبارك على الأرض وعلى القبائل والتي تمتد من قرب سفوان وأم قصر شمالاً إلى ما وراء الحفر والقرعة غرباً حتى بليبيل وجبل منيفة جنوباً. ويقول المؤرخ الكبير ساطع الحصري الخبير في الشئون التركية والعربية عن هذه المعاهدة في كتابه “البلاد العربية والدولة العثمانية” أن اتفاقية 29 يوليو تموز 1913 التي تم الاتفاق فيها على أمور كثيرة تخص الجزيرة العربية والخليج وبخصوص الكويت بين الحكومتين البريطانية والعثمانية “الكويت تبقى تحت سيادة الدولة العثمانية ولكن الدولة لا تتدخل في شئونها بأية وسيلة ولا ترسل إليها جنوداً. وجاء في بيان سري أن شئون الكويت تشمل الداخلية والخارجية كما تعترف الدولة العثمانية بالاتفاقيات التي سبق أن عقدها شيخ الكويت مع بريطانيا”.   ويضيف الأستاذ الحصري “بأن عدم تدخل الدولة العثمانية في شؤون الكويت الداخلية والخارجية لم يترك في الكويت أي أثر للسيادة العثمانية سوى كلمة السيادة (البلاد العربية والدولة العثمانية صفحة 256 – دار العلم للملايين 1960 الطبعة الثانية بيروت). وعلى الذين ينتقدون تلك المعاهدة التي وقعت بين الشيخ مبارك والحكومة البريطانية، أن لا ينظروا إليها بمقاييس هذه الأيام بل عليهم العودة ثمانين عاماً الى الوراء ويطلعوا على ظروف وملابسات تلك الأيام ليكون حكمهم واقعياً وصحيحاً. والآن لنعود قليلا الى الوراء ونتذكر ذلك الشاب الذي تركناه في ذلك البيت المتواضع من بيوت الكويت يقاسي هو وعائلته ويلات التشرد والحرمان، علماً بأن تلك الظروف الصعبة لم تثن قناته ولم تجعله يستسلم لليأس ليكون نسياً منسياً. لقد كان تعلقه وحبه لبلاده يزداد مع الأيام وقد أشرف الآن على العشرين من عمره وازداد معرفة بظروف بلاده وتاريخها ثم أدرك أن هناك من يتعاطف معه ويلتقي وإياه في التربص بالعدو المشترك فقد تجاوبت أفكاره وآماله بأفكاره وآمال والده الروحي الذي هيأت له المعاهدة مع بريطانيا آفاقاً جديدة من القوة والثقة بالنفس. فالخصم المشترك هو أمير حائل ورئيس قبائل شمر عبدالعزيز بن متعب الرشيد أشهر من عرفت الجزيرة العربية في تاريخها المعاصر في شدة البأس والقسوة في معاملة الخصوم، يقول عنه الريحاني (هو أمين الريحاني ويسمى فيلسوف الفريكة نسبة إلى بلدته في لبنان وهو المؤرخ و الأديب المعروف مؤلف كتاب تاريخ نجد. وكتاب وملوك العرب الذي خصص منه فصلا عن الكويت حيث نزل في ضيافة المرحوم الشيخ أحمد الجابر عام 1924. وكان مقرباً من السلطان عبدالعزيز آل سعود ونقل عن لسانه الكثير مما دونه عن نجد و تاربخها وعلاقتها بالبلاد المجاورة) “كان جباراً عتياً لا أثر للخوف في قلبه ولا شيء من الرحمة والحنان، وقد كان فوق ذلك قطوباً عبوساً، يشد عقاله فوق عينيه وكوفيته على فمه فسمي العبوس الملثم، قلما كان يبتسم بل قلما كان يكشف وجهه كله للناس”. وقد تولى الحكم بعد وفاة محمد الرشيد عام 1897. وبدأ الاستعداد لمقارعة العدو المشترك وحدثت عدة مناوشات ومصادمات مع ابن الرشيد ولكن أهمها كانت معركة (الصريف) المشهورة التي انتهت بانتصار ابن الرشيدعام 1901م. كانت هزيمة الصريف صدمة عنيفة لكل من مبارك وابن السعود ولكن ذلك النموذج في الرجال لا تفت من عضده خسارة معركة. وكما قال أبو الطيب المتنبي:

وإذا كانت النفوس كبار

تعبت في مرادها الأجسام

فقبل انتهاء ذلك العام قرر الأمير الشاب الخروج ثانية ولكن دون أن يلفت انتباه أحد واكتفى بأربعين شخصاً من أقربائه وأنصاره وهم أشبه ما يكونوا بالفرق الانتحارية في هذه الأيام وقد زودهم الشيخ مبارك كما يذكر أمين الريحاني بأربعين ذلولاً (وهى الناقة المعدة للركوب) وثلاثين بندقية ومئتي ريال وبعض الزاد. وسارت هذه المجموعة المغامرة واقتحمت قصر أمير الرياض المعين من قبل ابن الرشيد واسمه عجلان. وقصة اقتحام القصر معروفة وهي أشبه بقصص الأساطير الخيالية وأحياناً تكون الحقيقة أغرب من الخيال كما يقولون وكان ذلك في الخامس من شوال عام 1319هـ الموافق الخامس عشر من شهر يناير (كانون الثاني) 1902م. وقد اثلج هذا الانتصار صدور أهل نجد الذين قاسوا الأمرين من حكم آل الرشيد وكانت هذه المناسبة الفريدة نقطة الانطلاق لابن السعود لتوسيع نفوذه في الحواضر والبوادي النجدية. أما إبن الرشيد فلم يأخذ للأمر أهمية لأنه يعتقد بأنه يستطيع القضاء على ابن سعود بسهولة متى قرر ذلك، وتبدأ المناوشات بين الخصمين من كر وفر وتأتي السنة الحاسمة 1324هـ 1906م ويلتقي الجيشان في مكان قرب مدينة بريدة اسمه (روضة مهنا) بعد أن خيم الظلام على المكان ويختلط الحابل بالنابل والحروب الصحراوية معروفة وتختلف عن الحروب النظامية وإذا بعبدالعزيز بن متعب الرشيد فوق فرسه ينادي حامل رايته “من هان يا الفريخ من هان يا الفريخ” بلهجة أهل حايل ولم يدر أنه كان وسط الجيش السعودي فعرفوه وانهال عليه الرصاص وخر صريعاً، وجاءت البشائر إلى إبن السعود بمقتل إبن الرشيد خصمه اللدود، فتنفس الصعداء بعد أن حالفه الحظ بالتخلص من ألد أعداءه. وفي الكويت كانت فرحة الشيخ مبارك بالخلاص من ابن الرشيد لا تقل عن فرحة الأمير السعودي. ويواصل الأمير عبدالعزيز السعود بعد ذلك الانتصار الباهر يدعم مركزه ويصلح من أمور مملكته ونعود إلى الكويت حيث الشيخ مبارك يستقبل معتمدا بريطانيا جديداً هو (الكابتن شكسبير) الذي بقي في الكويت من سنة 1909م إلى 1914م ولنذكر نبذة عما جاء في الكتاب الذي كتب عنه نقلا عن مذكراته التي كان يدونها يوماً بيوم حتى قبل مقتله بقليل وهو يقاتل بجانب الأمير عبدالعزيز آل السعود في وقعة (جراب) في الرابع والعشرين من شهر ينايـــــــر (كانون الثاني) (Captain Shakespear – By H.V.F. Winstone) جاء في المذكرات “منذ مائة عام نقل صموئيل منستي موظف شركة الهند الشرقية مكاتبه ومخازنه من البصره إلى الكويت وكان الأتراك قد استعادوا البصرة من الفرس (احتل الفرس البصرة عام 1776 بعد حصار طويل وبقيت المدينة تحت سيطرتهم مدة ثلاث سنوات حيث استعادتها القوات التركية بمساعدة بعض القبائل العربية “المؤلف”) وبدأوا يضعون المتاعب للمؤسسة البريطانية، وبعمله هذا استطاع تحاشي التدخلات التركية، وهذا دليل على ما كانت تتمتع به الكويت من قسط مقبول في الاستقلال في ذلك الوقت، ولهذا بدأت الدول الكبرى تنظر الى الكويت كموقع مثالي من جزيرة العرب الذي من خلاله يمكن معرفة (حرارة) الصحراء. “ويضيف التقرير” وفي عام 1860 ذكر الكولونيل لويس بلي وكان وقتها مقيما سياسيا لحكومة بريطانيا في بوشهر أن الكويت بلدة نظيفة ونشطة وسكانها في حدود عشرين ألفاً ويتوافد عليها التجار من جميع الأقطار بسبب استقامة الحكم فيها وعدالته (الزيارة المذكورة كانت في عهد الحاكم الرابع صباح الثاني “المؤلف”). ثم يواصل التقرير وصف سكن الشيخ مبارك العائلي والرسمي الذي يسميه (السراي) والمقصود هو قصر السيف القديم. “يقدم المرافق محمد الكابتن شكسبير الذي شعر بالضيق بسبب ارتدائه ملابسه الرسمية بكامل عدتها، ويوجه مبارك الى القادم الجديد نظرة صارمة وكان معتمراً كوفيته المرقطة الملتفة حول وجهه الى كتفيه، وقد لاحظ شكسبير التجاعيد الواضحة على جبهته، وأنفه الكبير وشاربه المنسق ولحيته المنمقة المصبوغة بالحناء، وشفتيه المزمومتين وفك يدل على العزم والثقة وكان وجهه يدل على أنه رجل حسم ومكر ومهارة وعنف”. “وجه الشيخ نظرته القاسية المتشككة إلى ذلك الإنجليزي الغامض الملامح والواقف أمامه بشاربه العسكري المفتول بالشمع وجبهته العالية وأنفه المستقيم، وفكه الذي يدل على الذكاء والجد. وكعادة الرجال الآتين من الصحراء فان مبارك قلما يسمح لنفسه أو لمن حوله بأن تلوح الابتسامة على وجهه. لقد وقف وحيا المعتمد الجديد وأجلسه بجانبه ثم قدمت القهوة وتكلم الرجلان بالأمور السياسية المتعلقة بين الكويت وأمير الصحراء يقصد ابن السعود وبين بريطانيا ومبارك. ويستمر التقرير في وصف الشيخ مبارك فيقول:- “كان أقوى قائد عربي وأكثر نفوذاً في تلك الأيام وكان صوته مسموعاً ومميزاً في آفاق بعيدة كان داهية يختلف عن بقية الزعماء العرب فقد كانت له صفة عالمية – حتى الأتراك الذين كانت حاميتهم في البصرة على عتبة بابه يخشون بائسه وكان حكام الولاية يتحفونه بهداياهم لكسب وده، لقد قرأ شكسبير الكثير من الوثائق عن مبارك (لقد ذكر لي السيد علي زكريا الأنصاري أنه عندما كان سفيراً للكويت في الإتحاد السوفيتي أخبره أحد الأساتذة الروس المهتمين بشؤون الشرق الأوسط أنه اطلع على رسائل متبادلة بين قيصر روسيا والشيخ مبارك مما يدل على ما كانت تتمتع به الكويت من مكانة في المجتمع الدولي في ذلك الوقت كذلك علمت مؤخراً أن هناك وثائق ومراسلات مماثلة تتعلق بالكويت من 1901 إلى 1916 محفوظة في سجلات وزارة الخارجية الألمانية في بون. كذلك راجع كتاب التطور السياسي والاقتصادي للكويت بين الحربين 1914-1939 أطروحة ماجستير تأليف نجاة عبد القادر الجاسم 1973 حول التنافس الروسي الألماني البريطاني للحصول على موطئ قدم في الكويت) وعن تاريخ عائلته وعن حمايته للأمير السعودي عبدالرحمن بن فيصل وابنه عبدالعزيز والآن بدأ يسمع هذه الأحاديث عن ملك الجزيرة العربية المستقل من لسان أبيه الروحي. لقد كان اللقاء طويلاً وكانت بداية أواصر الصداقة بين الرجلين.   وعندما حان الوقت لمجلس الشيخ في السوق دعي شكسبير لمرافقة الشيخ في عربته وأجلسه بجانبه في عربة تجرها الخيول السود ويتقدم العربة مجموعة من حرس البدو المشاة، وخلف العربة امتطى عبده الأسود جواده الأبيض مرتدياً ملابس زرقاء وقد سأل الكابتن شكسبير الشيخ مبارك ليقارن بين نفوذ ابن السعود وابن الرشيد وكان جواب الشيخ مبارك مع ابن السعود وأنه يتمتع بتأييد غالبية القبائل وهو الزعيم الأقوى وذكر للمعتمد أن ابن السعود في حاجة إلي المال والمؤن والركائب وأضاف الشيخ مبارك أن قوة العربي تتمثل فيما يملك من جمال وخيول وأنه لمن الخطر السماح للأتراك بتسليح ابن الرشيد بينما يترك ابن السعود لمصيره. ومنذ ذلك الوقت بدأ شكسبير يوجه التقارير تباعاً من أجل الاهتمام بابن السعود كما كان حريصاً على الاجتماع به في أقرب فرصة وقد تحققت له هذه الرغبة في الكويت بترتيب من الشيخ مبارك في أوائل عام 1910م ثم استمرت اللقاءات بينهما وفي عام 1914م تم نقل شكسبير من وظيفته كمعتمد في الكويت وعين بوظيفة ضابط سياسي في المنطقة وعند نشوب الحرب العالمية الأولى احتل الإنجليز البصرة في نوفمبر 1914م وأصبح شكسبير تابعاً للمستشار السياسي للحملة (السير برسي كوكس) الذي كان قبل ذلك يشغل منصب الوكيل السياسي للخليج ومقره في بوشهر. ويقول فلبي في كتابه (أيام عربية) لو لم يقتل شكسبير في معركة جراب لأصبح هو محور الثورة العربية ضد الأتراك بدلا من لورانس (أشار إلى هذا الموضوع الدكتور مصطفى عبد القادر النجار في كتابه دراسات في تاريخ الخليج العربي المعاصر ص 54) وعندما التقى الجنرال جلبرت كلايتون بالملك عبدالعزيز في جدة عام 1927 م أثناء التوقيع على المعاهدة المعروفة (بمعاهدة جدة) سأل كلايتون الملك عبدالعزيز من هو الأوربي الذي أعجبت به أكثر من غيره فأجاب الملك دون تردد شكسبير.  

الخلاف بين مبارك وابن السعود

معظم المصادر والأجنبية منها خاصة كانت تؤكد أن الظروف أملت على كل من الشيخ مبارك والأمير السعودي أن لا يستغني كل منهما عن الآخر لصد التحديات الخارجية كما حدث مع غارات ابن الرشيد عليهما وتهديد السلطات التركية للطرفين بين حين وآخر. وأهم ما حدث قبيل الحرب العالمية الأولى هو احتلال ابن السعود لمنطقة الإحساء عام 1913 والتي ساعده فيها الشيخ مبارك وضمن له عدم تدخل بريطانيا ووقوفها على الحياد (راجع كتاب المصالح البريطانية في الكويت حتى عام 1939 -منشورات مركز دراسات الخليج العري بجامعة البصرة- تأليف الدكتور أحمد حسن جودة صفحة 100 و 101 كما ذكر المحامي سليمان فيضي في كتابه (في غمرة النضال) وهو الذي عايش تلك الفترة بحكم تواجده في البصرة قال ذكرنا فيما مضى أن الإحساء وملحقاتها كانت قد أدخلت تحت سيادة الدولة العثمانية الفعلية في زمن مدحت باشا وبقيت كمتصرفية تابعة لولاية البصرة ترسل إليها الحكومة المتصرفين من إستانبول. وفي الوقت الذي كانت الفوضى تسود الدولة العثمانية بأسرها، كانت هذه الفوضى بالغة أشدها في تلك المنطقة النائية حيث لا رقيب على المتصرفين ولا رادع للجند، فلم يطق الأعراب تعسف الموظفين ولم يتحملوا الضرائب الثقيلة التي ترهقهم الحكومة بجبايتها، لذلك أرسلوا إلى ابن سعود يطلبون منه إنقاذهم من تلك الحالة السيئة وفي 5 مارس 1913 احتل ابن سعود بلاد الإحساء وأجلى عنها الجيوش العثمانية وجميع الموظفين وهيأ لهم باخرة أقلتهم إلى البصرة وعزمت حكومة إستانبول على إرسال حملة قوية في قافلة من البواخر لاسترجاع الإحساء. وهنا تدخل الإنجليز فأبلغوا الحكومة العثمانية معارضتهم لهذه الفكرة وذلك رغبة منهم في صيانة السلم في شواطيء البحر العربي وحفظاً لمصالحهم الخطيرة في الخليج. وهكذا أغلق على الحكومه، فتذرعت بوسيلة أخرى وهي أن التمست من السيد طالب أن يتوسط بينها وبين ابن السعود لتسويةالنزاع تسوية سلمية نظراً للصداقة المتينة التي تربطهما معا. قدم ابن السعود، إجابة لطلب السيد طالب إلى مكان بين الكويت والزبير يدعى (الصبيحية) وتوجه السيد طالب إلى المكان المذكور على رأس وفد قوامه سامي بك متصرف الإحساء السابق والمقدم عمر فوزي بك وأحمد الصانع وعبداللطيف المنديل. وبنتيجة المفاوضات وافق ابن السعود على أن تسميه الحكومة العثمانية والياً على الإحساء لمدة عشر سنوات قابلة للتجديد والتمديد. وعاد الوفد إلى البصرة يحمل ذلك الفوز الوهمي وتلك المعاهدة الواهية فقبلتها حكومة إستانبول على مضض وأنعمت على كل من أحمد الصانع وعبداللطيف المنديل بلقب الباشوية استجابة لرغبة السيد طالب وهكذا أسدل الستار على قضية الإحساء القطر العربي الذي ما زال حتى اليوم جزءا من المملكة العربية السعودية). ومع كل هذا فمن الطبيعي أن تتصادم المصالح أحياناً لا سيما بين شخصيتين قويتين مثل مبارك الصباح وابن السعود فكل منهما يسعى إلى مركز الصدارة وظروف البادية وتقلباتها السريعة تقلب المقاييس أحياناً فالبدوي المتنقل لا يمنح ولاءه للأرض بقدر ما يمنحه للقبيلة كما أن ولاء رئيس القبيلة لا يمكن ضمانه لجهة معينة لفترة طويلة والأدلة والشواهد على ذلك كثيرة وقد أشار إلى هذه الظاهرة المتأصلة بحياة البادية كل من عايش هذه الظروف من عرب وأجانب في مؤلفاتهم وقد تأثرت حياة الرجلين العظيمين بهذه المعطيات وردود فعلها على ظروفهم ومصلحة بلادهم. فكان ما كان مما تناقلته الأخبار وقتها من خلافات لم تكن بالعمق الذي صورت به ولكنها ظهرت على السطح واضحة بعد ذلك في أيام حكم الشيخ سالم والشيخ أحمد كما سيأتي ذكره في الفصول القادمة. وكما أشرنا فان الولاء القبلي غير الثابت والمتغير قد أثر على العلاقات بين البلدين وهو الأساس الذي بنى عليه السير برسي كوكس مشروعه لتخطيط الحدود بين كل من العراق ونجد والكويت والذي خسرت بموجبه الكويت ثلثي المساحة التي كانت تخضع لسلطة الشيخ مبارك الصباح أيام حكمه باتجاه حدودها الجنوبية كما يذكر الكولونيل ديكسن في كتابه الكويت وجيرانها على أساس أن القبائل التي كانت في تلك المنطقة أعلنت عن ولائـــــها لابن سعــود بعد وفــاة الشيـخ مبارك (Kuwait and Her Neighbours Page 274 – 275، توجد ترجمة عربية للكتاب ولكنى اعتمدت في مراجعتي للكتاب على النص الإنجليزى).    

الحرب! الحرب!

أتذكر أني قبل مدة عثرت على كتاب مترجم من الألمانية إلى الإنجليزية مؤلفه جنرال ألماني مشهور اشترك في الحرب العالمية الأولى والذي لفت انتباهي في ذلك الكتاب وظل باقياً في ذاكرتي هذه المدة الطويلة هو ما جاء في مقدمة الكتاب وهو أن الحرب عادة متأصلة في الطبع البشري وما دامت طبيعة البشر باقية ولم تتغير فإن الحروب ستتفجر بين حين وآخر وأن فترة السلام ما هي إلا هدنة بين حربين، قرأت ذلك الكتاب في أوائل الثلاثينات وكما هو معروف اندلعت نيران الحرب العالمية الثانية في عام 1939. فكأن ذلك الجنرال كان يتنبأ بما سيحدث حيث إن الهدنة لم تدم أكثر من عشرين عاماً. ويقال إن الحرب تنشب عندما يعتقد طرف من الأطراف انه قادر على الانتصار على عدوه وتحطيمه وهذا الشعور هو الذي جعل ألمانيا بزعامة هتلر وبأسلحتها المتفوقة في ذلك الوقت لتشن حربها. وأن ما يجري اليوم من صراع وخلاف بين الدول مرده إلى تلك النزعة المتأصلة في طبائع البشر. ولكن حسابات وتقديرات اليوم تختلف عن تقديرات وحسابات تلك الأيام حيث الكل يعرف بأن الحرب ستكون وبالاً على الجميع أو بالأحرى على البشرية أجمع. وهذا ما يعطينا الأمل بأننا سنتمتع بفترة سلام أطول والله أعلم. والذي يهمنا من ذكر الحرب في بحثنا هذا هو انهيار وسقوط الدولة العثمانية التي بدأت عهدها في نهاية القرن الثالث عشر الميلادي، وسميت بالدولة العثمانية نسبة إلى مؤسسها الأول المسمى السلطان عثمان في بلاد الأناضول وبدأت هنا الدولة تنمو وتزدهر تحت لواء الإسلام حيث تم الاستيلاء على المدن البيزنطية الواحدة تلو الأخرى حتى تم احتلال عاصمة الدولة البيزنطية (القسطنطينية) ثم بدأ زحفهم على أوربا حتى احتلوا شبه جزيرة البلقان وواصلوا زحفهم حتى وصلوا إلى أسوار مدينة فينا. أما في الشرق فقد قاد السلطان سليم حملة عسكرية على الدولة الصفوية في إيران في أوائل القرن السادس عشر ثم توجه نحو المماليك في بلاد الشام ومصر وتم احتلال العراق فيما بعد ويقال أن السلطان سليم أخذ البيعة بالخلافة الإسلامية من آخر الخلفاء العباسيين (المتوكل على الله) حيث كان مقيماً في مصر ولا يملك من الخلافة سوى اسمها. ثم بدأت عوامل التخلف والانحطاط تنخر في جسم الدولة حتى جاء القرن التاسع عشر عصر العلم والتقدم الحضاري في الغرب مع ظهور الدول الكبرى وطموحاتها الاستعمارية التي لا حدود لها. وفي بداية القرن العشرين كانت (الدولة العلية) قد خسرت مناطق نفوذها في أوربا وشمال أفريقيا وآخرها مصر الذي انتهى باحتلال الانحليز لذلك القطر العربي عام 1882. ولم يبق لديها سوى بلاد الشام والعراق حيث كان نفوذ الدولة مقتصراً على العواصم مثل دمشق وبغداد وبعض المدن الرئيسية ولهذا فقد سموها (بالرجل المريض) ثم أجهزوا عليه وقطعوا أوصاله وقسموا التركة فيما بينهم. وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الدولة فمن دور النمو إلى دور الكمال ثم الانحطاط. سنة الله في خلقه. ذكرت هذه المقدمة لكي أصل إلى فترة الحرب العالمية الأولى التي حدثت خلالها وبعدها مفاجآت وتحولات جذرية في منطقتنا بالذات فقد اشتعلت نيران الحرب العالمية الأولى في صيف 1914 بين ألمانيا والنمسا وحلفائهما وبريطانيا وفرنسا وحلفائهما. وكانت بريطانيا تحرص على أن تبقى تركيا على الحياد خوفاً من إثارة المسلمين في العالم ضد الحلفاء لا سيما مسلمي الهند الذين كانوا يشكلون نسبة مهمة في الجيش البريطاني الإمبراطوري. وقد كان الحل والربط في تركيا في ذلك الوقت بيد بعض الشباب من الضباط الذين تلقى بعضهم تدريبه في ألمانيا وممن اعتقدوا بأن ألمانيا القيصرية بما أوتيت من قوة ومنعة لا بد وأنها ستنتصر في النهاية. وعلى رأس أولئك الضباط أنور وطلعت وجمال الذي لقب فيما بعد بلقب جمال السفاح بسبب الإعدامات التي نفذها ببعض الأحرار العرب في سوريا ولبنان. وقد وقعت الواقعة وأعلنت تركيا الحرب في خريف ذلك العام ولهذا وجب على بريطانيا أن تعمل وتعمل بسرعة علماً بأن بريطانيا تعرف أن تركيا ضعيفة ومفككة ولكن كما أشرنا كان الخوف من ردود الفعل الإسلامية في المنطقة ولذا سارعت إلى الاتصال بالقادة المسلمين كل حسب ظروفه والذي يهمنا في هذا المجال ما حدث في منطقتنا فقد قررت بريطانيا القيام بعملية إنزال لاحتلال البصرة ووجه الكولونيل نوكس المقيم السياسي في الخليج ثلاث رسائل إلى كل من الشيخ مبارك والأمير ابن السعود والشيخ خزعل يخبرهم فيها عن نوايا بريطانيا. وعزمها على إنزال قواتها في البصرة وقد طلب من الزعماء الثلاثة مساعدة بريطانيا في استنفار جيوشهم والاشتراك في الحرب إن أمكن (راجع نص الرسالة الموجهة إلى الشيخ مبارك – المصالح البريطانية في الكويت ص 150).   وكانت الخطة الأولى للحملة البريطانية حماية نفط عبادان ولهذا كان الاهتمام مركز على خزعل شيخ المحمرة أو شيخ عربستان كما كان يسمى في ذلك الوقت أما الشيخ مبارك والأمير ابن السعود فقد كان هم السلطات البريطانية الأول إبقاءهم على الحياد والسيطرة على الشعور الديني الموالي للأتراك في بلادهم حيث ظهر تخوف من الدعوة إلي الجهاد ضد الحلفاء ولهذا صدرت بيانات من المقيم السياسي البريطاني ومن القوات الزاحفة باحترام الأماكن المقدسة في الجزيرة العربية والعراق وقد أعطت فرنسا وروسيا مثل هذا التعهد (راجع البصرة في عهد الاحتلال البريطاني – جامعة البصرة دراسات الخليج العربي ص 143).   هذا التخوف من قبل بريطانيا وحلفائها والذي كان له ما يبرره هو الذي جعل بريطانيا تتجه نحو الشريف حسين بن على شريف مكة وتغدق العهود والوعود لإقناعه بالثورة ضد الدولة العثمانية وكما يقول لورانس فقد كانت ظروف الحرب تبرر تلك الوعود. وهكذا بدأ زحف الحملة البريطانية القادمة من الهند بتجهيزاتها الكاملة والقوات البحرية التي تحيط بها وفي الجهة المقابلة القوات التركية في حامية البصرة وأغلب جنودها كما تقول المصادر العربية والأجنبية من العرب المجندين والمتطوعين وغالبيتهم من الفلاحين الذين أرهقهم النظام الإقطاعي السائد ني ذلك الوقت فأضناهم الفقر وفتكت فيهم الأمراض (نفس المصدر – صفحة 161). وبدأ أول إنزال للحملة في منطقة الفاو عند مصب شط العرب يوم 6 تشرين الثاني نوفمبر 1914.   واستمرت الحملة في زحفها أمام مقاومة ضعيفة حتى دخلت البصرة بصفة رسمية يوم الثالث والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني 1914) وكانت القوات العثمانية قد قررت الانسحاب من البصرة ليلة 19 و 20 وكانت الفترة بين انسحاب الأتراك ودخول القوات البريطانية فترة عصيبة حيث بدأ السلب والنهب لا سيما في منطقة الجمارك ومخازن البضائع في العشار، وهنا لا بد من الإشارة إلى دور الشيخ خزعل في تسهيل مهمة الحملة البريطانية وتزويدها بالأخبار عن تحركات الأتراك وجعل المحمرة مركزاً لنشاط القوات البريطانية قبل احتلال البصرة وبعده. وقد كان جزاء ذلك الرجل كما يقول المثل كجزاء سنمار، فقد تخلى عنه الإنجليز بعد الحرب عندما قويت شوكة رضا شاه والد الإمبراطور المخلوع وتركوه تحت رحمته حيث اعتقله وأخذه أسيراً إلى طهران عام 1925 حتى وفاته فيما بعد وقد صادر أملاكه وألغى كل الاتفاقيات الفدرالية التي كانت تتمتع بها منطقة عربستان في ذلك الوقت (لقد كان الشيخ خزعل يتمتع بنفوذ داخلي واسع في منطقته، كما كانت له اتصالات خارجية بارزة مع بريطانيا والسلطات العثمانية وابن السعود والكويت، ويذكر لوريمر المؤرخ البريطاني في كتابه دليل الخليج – إن روسيا صاحبة النفوذ القوي في شمال إيران في ذلك الوقت كانت تضغط على حكومة طهران للانتقاص من نفوذ الشيخ خزعل تحديا للنفوذ البريطاني في منطقة الخليج وجنوب إيران). وهكذا كماقال أحد وزراء بريطانيا السابقين ليس لبريطانيا أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون بل لبريطانيا مصالح دائمة وقد مشت على هذه القاعدة كثير من الدول لا سيما العظمى منها ولا داعي لذكر الأمثال فهي معروفة وكثيرة.  

وفاة الشيخ مبارك الصباح

لقد كان لاحتلال البصرة من قبل القوات البريطانية أثره المادي والمعنوي على الشيخ مبارك فقد ارتفع عنه كابوس الأتراك الذين كانوا مصدر إزعاج وقلق له منذ توليه الحكم. أما الآن وقد انتصر حلفاؤه وساهم في هذا الانتصار صديقه وحليفه الشيخ خزعل إلا أن القدر لم يمهله طويلاً ليستمتع بامتياز هذه المرحلة الجديدة من حكمه فقد وافاه القدر المحتوم يوم الاثنين الحادي والعشرين من شهر محرم 1334هـ الموافق التاسع والعشرين من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1915م. ولا شك أن وفاة الشيخ مبارك المفاجأة هزت المنطقة بعنف لما كان له فيها من نفوذ وسطوة ولمركز الكويت الهام في السلم والحرب.

الشيخ جابر بن مبارك

كان الشيخ جابر الابن الأكبر للشيخ مبارك وقد تولى الحكم بعد وفاة والده كان هادي الطباع لين الجانب وأول عمل قام به عند توليه الحكم تخفيف الضرائب وقد انتعشت في عهده التجارة بسبب ظروف الحرب وقد زاره في الكويت الأمير عبدالعزيز السعود معزياً بوفاة والده كما زار الكويت في تلك الفترة أوائل عام 1916 الشيخ خزعل والسير برسي كوكس. وجرت عدة اجتماعات بينهم ذات طابع سياسي بسبب ظروف الحرب.  

الشيخ سالم بن مبارك

تولى الحكم بعد وفاة أخيه الشيخ جابر في الخامس من فبراير (شباط) 1917 ويذكر عبدالعزيز الرشيد عن الشيخ سالم أنه كان عفيفاً وعدواً للفسق والفجور كثير الصمت حليماً ولكن في رياض حكمه أشواك من الغضب لا يعتني بلباسه ولا بمجلسه وله إلمام يسير بالنحو وشغف بمطالعة الكتب وله شجاعة نادرة المثال أما ديكسن فيقول: إن طباع الشيخ سالم تختلف عن طباع أخيه الشيخ جابر السلس المتسامح. فقد كان الشيخ سالم مسلم متزمت شديد العناد وقبل توليه الحكم كان يقضي أوقاته في البادية وكان ينفر من المخترعات الحديثة، كانت شجاعته خارقة. وعليه تكاد تقع الملامة الكلية لما حدث بينه وبين ابن السعود من خلاف (ديكسن -الكويت وجيرانها- النص الإنجليزي صفحة 243).   والواقع أن الخلاف ظهرت بوادره قبل تولي سالم الحكم أي منذ عهد الشيخ مبارك وظهور ابن سعود كشخصية مرموقة في الجزيرة العربية لا سيما بعد احتلاله لمنطقة الإحساء ثم الانحسار التدريجي لنفوذ آل الرشيد. وهناك عوامل كثيرة سببت الخلاف بين الرجلين ما ظهر منها وما بطن. وقد أشار إلى بعضها المؤرخ الكويتي الشيخ عبدالعزيز الرشيد في كتابه تاريخ الكويت. فقد كان منصفاً في ذكر وجهة نظر الطرفين وأنصارهما وبهذا تميز عن بعض الذين أرخوا للجانب السعودي فكتابة التاريخ أمانة كبرى لا يجوز التساهل بحقائقها وقد لا يتمكن المؤرخ من ذكر كل الحقائق ولكن لن يعذر إذا أظهر ميلاً يغير ويحور بعض تلك الحقائق. إن عبدالعزيز الرشيد عند عرضه للخلاف الذي حدث بين الأمير ابن السعود والشيخ سالم والذي أدى إلى معركة الجهراء التي نحن بصددها وإشارته إلى ما قاله أنصار ابن السعود وما قاله أنصار الشيخ سالم وعلى الرغم مما قيل ونشر فإن تلك الخلافات كانت لها ظروفها ومسبباتها الآنية وعواملها النفسية، كما ترتبت عليها نتائج وظروف مصيرية. لقد ذكرنا أن الشيخ سالم تولى حكم البلاد في أوائل عام 1917 وهي السنة التي اشتدت فيها ضراوة الحرب العالمية الأولى والتي حقق فيها الحلفاء انتصارات ملموسة خاصة في منطقة الشرق الأوسط. ففي الحجاز نمت وتعاظمت ثورة الشريف حسين بن علي وفي شرق الجزيرة العربية تقدمت القوات البريطانية في بلاد الرافدين حيث تم احتلال بغداد بعد الهزيمة الكبيرة التي لحقت بجيش الإمبراطورية البريطانية في منطقة الكوت حيث استسلمت القوات البريطانية بعد حصار مرير دام أكثر من خمسة أشهر (يعتبر حصار الكوت نكسة مهينة للقوات البريطانية الزاحفة في الجنوب نحو الشمال وقد حاولت بريطانيا فك الحصار بشتى الطرق ومنها دفع الرشوة المالية فقد وصل في تلك الفترة لورانس إلى العراق بمهمة سرية وكان مخولاً بأن يدفع فدية من المال تصل إلى مليون جنيه ذهباً ولكن القائد التركي خليل باشا رفض ذلك العرض المغري واستمر الحصار حتى استسلمت القوات بكامل عددها وعدتها. وعلى رأسها قائدها العام الجنرال تاوزند) وهكذا بدأت المواد التموينية من الوصول إلى الأتراك في سوريا عن طريق الصحراء وفى يوليو (تموز) من تلك السنة تلقى الشيخ سالم إنذاراً من السلطات البريطانية تفيد بأن التعهدات البريطانية التي أعطيت لوالده بما فيها الحماية والمساعدة لا يمكن استمرارها إلا إذا امتنع رعاياه والأشخاص المقيمين على أرضه من القيام بأي عمل من شأنه الإضرار بالمصالح البريطانية (الكويت وجيرانها ص 243-244) وبهذه المناسبة يذكر المستر فيلبي عن سفرته الأولى لمقابلة الأمير عبدالعزيز آل السعود، وعند وصوله وجد هناك الكولونيل هملتن المعتمد البريطاني في الكويت حيث كان مقيماً هناك منذ شهر.   ومن الواضح أن المهمة الرئيسية لهذه الحملة المركزة هو تشديد الحصار على الأتراك وإضعاف مركز حليفهم ابن الرشيد (على ذكر الحصار يقول الأمير شكيب أرسلان في كتابه -سيرة ذاتية- ص 234/235 ان الإنجليز احكموا حلقة الحصار على سوريا ولبنان من البر والبحر حتى مات عشرات الألوف من السكان بسبب الجوع والمرض حتى أنهم رفضوا توسط قداسة البابا لأجل إرسال المساعدات الغذائية إلى مسيحيي لبنان مع أن السلطات التركية وافقت على إرسال تلك المساعدات مباشرة إلى المنكوبين وتعهدت بعدم التعرض لها كذلك راجع تفاصيل حصار الكوت وموقف الشيخ سالم منه في أطروحة نجاة عبدالقادر الجاسم التي سبقت الإشارة إليها) ومن هذا الوضع الجديد تبرز الأهمية التي بدأ الإنجليز يعلقونها على الأمير السعودي لا سيما بعد عقدهم معه اتفاقية القطيف في أوائل عام 1915 ومده بالإعانات المادية والتي كانت تقدر في بدايتها حوالي خمسة آلاف جنيه ذهباً شهرياً.   ويقول فيلبي ان الوفد اجتمع بابن السعود في المساء ودام الاجتماع حوالي ثلاث ساعات وكان موضوع الكويت قد جرى بحثه وطلب هملتون تعاون نجد وتشديد الحصار وكان جواب ابن السعود ودياً وإيجابياً و لكنه أشار إلى أن الشيخ سالم متورط في الموضوع بالإضافة إلى تفاهم سري بينه وبين الأتراك، وعلى السلطات البريطانية أن تعالج القضية من منبعها حيث من الصعب مطاردة المهربين عند انطلاقهم عبر الصحراء وقد جرت أحاديث صريحة حول العلاقات الشخصية بين ابن السعود والشيخ سالم وقد تبين أنها على أسوأ ما يرام وقد بقيت الحال على المنوال حتى وفاة الشيخ سالم.   كما أشار فيلي إلى الصلات الطيبة التي كانت قائمة بين ابن سعود ومبارك الكبير منذ كان هو وأبوه ضيفين غلى الشيخ مبارك ومساعدته لهما في استعادة الرياض. وكان -أي ابن السعود– ينظر إليه كوالده الثاني ويستمد منه النصيحة في الأمور السياسية المهمة وبقي محافظاً على هذه الصلات الطيبة حتى وفاتــه كما استمرت هذه الصلات الطيبــة مع خليفته جابـــر حتى وفاته وبعد سالم جـــاء أحمــــد الذي استمــر على علاقاتـــه الطيبة مع ابن السعـــود. (Arabian days P.152 – H.St. John P. Phil by & Kuwait & her neighbours P.241)  

الأوضاع العامة قبل معركة الجهراء

بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولى واندحار حلفائهم فيقلب الجزيرة العربية المتمثل في بيت آل الرشيد أصبح الإمام عبدالعزيز آل السعود هو السيد المطاع في معظم أنحاء الجزيرة العربية وقد تعززت هذه السيادة بعد انتصاره الساحق على أشراف مكة في معركة (تربة) (تقع “تربة” في الطرف الشرقي من بادية الحجاز على طريق مدينة الطائف وكانت في الماضي مثار نزاع بين السلطات الحجازية والسعودية وبعد فك الحصار على المدينة المنورة واستسلام الجيش التركي اتجه قسم من الجيش النظامي الشريفي بقيادة الأمير عبدالله بن الحسين نحو تربة واحتلها وكان الرد السعودي على ذلك الهجوم سريعاً وحاسماً باحتلال تربة وكانت غالبية الجيش السعودي من قبيلة عتيبة بقيادة سلطان بن بجاد والشريف خالد بن لؤي الوهابي المذهب وقد نجا الأمير عبدالله بن الحسين من تلك المعركة بأعجوبة بعد أن تشتت شمل جيشه).   إلا أن طموح الأمير السعودي لم يقف عند ذلك الحد ولا سيما أن موارد البادية ضئيلة ومحدودة ومع أن الأمور أصبحت أحسن حالاً بعد احتلاله الإحساء عام 1913. وحالة البادية معروفة منذ أقدم العصور فالهجرة من الصحراء إلى الأماكن الأحسن حالاً لم تنقطع في يوم من الأيام. والهجرة كما هو معروف إما أن تكون جماعية مثل هجرة قبيلة بكاملها أو الهجرة الفردية، وهجرة القبيلة أو العشيرة تكون عادة بسبب الحروب أو الاضطهاد من القبائل الأقوى أو لسبب القحط وقد فرضت الطبيعة على البدوي معيشية شاقة ولهذا برزت عنده طبيعة الغزو فهو أشبه بالطير الجارح الباحث عن فريسة. ويحدثنا الشيخ حافظ وهبه في هذا المجال في كتابه جزيرة العرب في القرن العشرين صفحة 287 فيقول “عرفت البدو في حياتهم البدوية وعرفت كثيراً من قادتهم في جاهليتهم وفي إسلامهم وعرفتهم بعد أن سكنوا (الهجر) (قرى سكنها البدو بعد أن هجروا حياة البادية) فرأيت الدين قد غيرهم تغييراً تاماً. كان البدوي لا هم له إلا النهب والسلب وقطع الطريق ثم يعد هذا العمل من مفاخر البادية وكان لسان حالهم يقول -المال مال الله، يوم لي ويوم لك، نصبح فقراء ونمسي أغنياء ونصبح أغنياء ونمسي فقراء- والقوافل التجارية كانت تحت رحمة البادية. لا تمر من المنطقة إلا بأتاوة أو مجيز. والبدوي لم يكن أبداً مخاطراً بحياته فإذا النهب سيكون من ورائه خطر تركه. وكذلك إذا رأى دفاعاً قوياً في خصمه تركه. ولذا فلا يعول الأمراء كثيراً على عددهم ولا على قوتهم وكثيراً ما كانوا وبالاً على صديقهم فإذا بدرت منه بوادر الهزيمة كانوا أول الناهبين له ويحتجون بأنه إذا كان صاحبهم منهوباً أو مأخوذاً -كما يقولون- فهم أولى به”. ثم يواصل حديثه فيذكر: “أما (الإخوان) الآن فهم حماة الطريق ويرون حرمة التعدي على المسافر وابن السبيل وأصبح (الإخوان) لا يهابون الموت بل يندفعون اندفاعاً طلباً للشهادة وأصبحت الأم عندما تودع ابنها تودعه بهذه الكلمات -جمعنا الله وإياك في الجنة- وأصبحت كلمة التشجيع على الحرب -هبت هبوب الجنة وينك يا باغيها- ولقد شاهدت بعض مواقعهم الحربية فوجدتهم يقذفون بأنفسهم قذفاً ويتقدمون إلى أعدائهم صفاً صفاً، والإخوان على العموم لا تعرف قلوبهم الرحمة ولا يفلت من تحت يدهم أحد منهم”.

مركز الكويت كميناء مثالي في رأس الخليج

ومدينة الكويت بكونها ميناء بحرياً ممتازاً ومركزاً تجارياً هاماً فهي دون منازع بوابة البادية الأولى وذلك منذ تأسيسها في منتصف القرن الثامن عشر وقد تعرضت لعدة هجمات سواء من البحر أو من البر. فمعركة الرقة البحرية بين الكويت وقبائل بني كعب عام 1779 حيث انتصر الكويتيون انتصاراً ساحقاً على أعدائهم ثم الهجوم الوهابي من البر والذي أشار إليه ممثل شركة الهند الشرقية في تقاريره عام 1793 (تاريخ الكويت -تأليف الدكتور أبو حاكمة- إشراف لجنة تاريخ الكويت صفحة 184 وصفحة 255). والواقع أن الكويت كانت دائماً المستفيد من توازن القوى في المنطقة بفضل السياسة الحكيمة المعتدلة التي اختطتها لنفسها منذ القدم. فابتعاد الكويتيين عن اعتناق المذهب الوهابي أبعد عنهم كابوس النفوذ التركي وقد سبقت الإشارة إلى المكانة التي وصلت إليها الكويت في عهد الشيخ مبارك وما أن بزغت شمس القرن العشرين حتى غمرت الكويت انطلاقة جديدة تمشت مع روح العصر فتوسعت تجارتها وامتد نفوذها بحراً وبراً وظهرت فكرة خط برلين بغداد الذي كان مفروضاً له أن ينتهي عند كاظمة ولكن نشوب الحرب العظمى حال دون تحقيق ذلك المشروع الطموح. وظلت الكويت تتمتع بهذا الاستقرار السياسي مستفيدة من الظروف الاقتصادية أيام الحرب و بعدها وكان لأسطولها التجاري البحري دوره الكبير في هذا المجال زد على ذلك استعداد أهلها الفطري وحسن معاملتهم وأمانتهم التي يشهد لهم فيها من تعامل معهم وجاءت مشكلة الخلاف بين الشيخ سالم وابن السعود فتعكر صفو تلك الأجواء المريحة لفترة من الوقت كما سنرى.

الخلاف على الحدود وبداية المشكلة

يقول ديكسن “في 26 ديسمبر 1919 دخل ابن السعود في اتفاقية مع حكومة صاحب الجلالة لأمر يتعلق بالاتفاقية الإنجليزية التركية وأن الحدود بين الكويت وإبن السعود تبقى موضع بحث وتنتظر البت”. ولا شك أن الأمير ابن السعود انتهز فرصة الخلاف بين سالم والبريطانيين وهنا تظهر المقدرة على الاستفادة من الفرص المواتية والقدرة على المناورة مع الأصدقاء والخصوم على السواء. وكما استطاع ابن السعود فيما بعد بدهائه وبعد نظره أن يستغل الخلاف الذي حدث بين الملك حسين بن علي وبين الإنجليز حول مضمون ومفهوم الدولة العربية فقد كانت طموحات الملك حسين وعناده الذي اشتهر به أبعد مما تسمح به معاهدة (سايكس بيكو) التي عقدت بين فرنسا وبريطانيا عام 1916 والتي تم فيها تحديد مناطق النفوذ في منطقة الشرق الأوسط ثم تلا ذلك وعد بلفور عام 1917 خلافاً لما تم الاتفاق عليه مع العرب – فقد رفض الملك حسين توقيع معاهدة مع بريطانيا عام 1923 والتي كان المفروض فيها تحديد المناطق العربية التي تقع تحت سيطرته في حين تم تنصيب ابنه الأمير فيصل ملكاً على العراق عام 1921 والأمير عبدالله بن الحسين أميراً على شرق الأردن. إن رفض توقيع المعاهدة المشار إليها أخلت سبيل الإنجليز حسب مفهومهم وأعطت الفرصة للسلطان عبدالعزيز السعود لأن يضرب ضربته القاضية وهو العارف بمواطن الضعف في الكيان الحجازي الجديد وهكذا تم له احتلال الحجاز بأسهل مما كان متوقعاً وذلك في عام 1924-1925 (للمزيد من المعلومات حول فتح الحجاز راجع “خمسون عاماً في جزيرة العرب والجزيرة العربية في القرن العشرين للشيخ حافظ وهبة”).    

بداية الأزمة

يقول عبدالعزيز الرشيد أن ابن سعود بدأ يناور لاستفزاز سالم وإثارته بالإيعاز إلى أحد قواده -ابن شقير- في البناء في حدود الكويت وقد أمره سالم بأن يتوقف (المنطقة المقصودة هي قرية أو (جرية) والني ألحقت فيما بعد ضمن الحدود السعودية بموجب اتفاقية العقير عام 1922) عن المحاولة ولكن ابن شقير رفض الانصياع لأوامر الشيخ سالم وأجاب بأنه يتلقى أوامره من ابن سعود كذلك فإن ابن سعود لم يكتف بما قام به ابن شقير بل أنه أوعز إلى جماعة من قبيلة مطير التابعة له بالإغارة على أطراف الكويت والتحرش بقبائلها وقطع سبلها وما كان لقبيلة مطير أن تقوم بمثل هذه المحاولة دون رضى ومعرفة سلطان نجد.   أما الدكتور ملري طبيب المستشفى الأمريكي في ذلك الوقت يقول في مذكراته الكويت قبل النفط (الدكتور ستانلي مليري هو طبيب إنجليزي التحق بالبعثة التبشيرية الأمريكية قي الخليج منذ عام 1907 وجاء إلى الكويت لأول مرة عام 1911 وأشرف على تأسيس مستشفى البعثة التبشيرية الأمريكية وقد زاول مهنته في ظروف صعبة نظراً لعدم توفر وسائل العلاج اللازمة في ذلك الوقت وقد أحب الكويت وأحبه أهلها. وظل يؤدي واجبه الإنساني حتى وفاته في عام 1952 في الكويت حيث دفن فيها).   يتميز عام 1920 بازدياد حدة التوتر بين الكويت وابن السعود حيث بلغت سطوة ابن السعود أوجها وأصبح الإخوان في نظر الناس قوة لا تقهر ويضيف قائلاً ومن المؤكد أن ابن السعود كان يتطلع إلى الكويت بشوق نظراً لمينائها العميق، وكان الشيخ مبارك العظيم الوحيد القادر على التعامل مع ابن السعود وتجنب الحرب معه، يرقد في قبره منذ أربع سنوات. وقد ازدادت تحرشات الإخوان بالكويت في ذلك العام – هذا بعض ما قاله (ملري) حول الخلاف وهو قريب الشبه لما قاله ديكسن وابن الرشيد في هذا المجال ويقول ابن الرشيد بأنه يعرض وجهة نظر كل من أنصار سالم وأنصار ابن السعود حول موضوع الخلاف. و هو مبدأ يشكر عليه كما سبقت الإشارة في الصفحات الماضية.

ما يقوله أنصار ابن سعود

  • إن ابن سعود لقي من سالم صدوداً وإعراضاً في زيارته للكويت أيام حكم جابر وهذا أول شيء أثار حفيظة ابن سعود على سالم.
  • وقوف سالم في وجه إبن سعود عندما أراد الإجهاز على العجمان بعد حادثة الإحساء وبعد أن أصلح معهم سالم بأمر من أبيه.
  • إيواء سالم للعجمان وقبضه عليهم وهو يعلم أنهم من ألد أعدائه.
  • نفرة سالم من مذهب الوهابيين والسماح للبعض لعقد مجالس الوعظ التي ترميهم فيها بفساد العقيدة وبالجهل والتعصب.
  • بتمييزه لوفود ابن الرشيد بالحفاوة والإكرام على وفوده وهو يعلم ما بين الاثنين من العداء المتفاقم.

ما يقوله أنصار سالم

  • الجفاء الذي أظهره ابن سعود للكويت وأهلها والسعي الحثيث ضد مصلحتها وهو الغريق بإحسانها المشمول بنعمة حكامها ووجهائها يوم أن كان صفر الكفين من الحكم.
  • تزكية ابن السعود للعوازم -أي جباية الزكاة- وهم من قبائل الكويت، واعتذاره بخطأ أعماله ليس بشيء وكل من عرف دهاء الرجل لا تخفى عليه الحقيقة التي يريد عظمته سترها.
  • تكفير (الإخوان) لأهل الكويت وسالم في معيتهم وشدتهم إذا ما ولجوا أسواقها واختلطوا بأهلها.
  • المراوغات التي أجراها ابن سعود مع مبارك والاعتداءات التي وجهها إليه أيام حياته وما يؤذي الأصل يؤذي الفرع ويضيف عبدالعزيز الرشيد بأن سالماً مع هذه الحجج القوية لم يكن البادئ بإشعال نار الحرب وإراقة الدماء.

وهكذا استمرت بعض قبائل مطير تشن الغارة تلو الأخرى تحرشاً بسالم وإثارته وصادف في ذلك الوقت أحد زعمائها في الكويت (يقال انه جفران الفقم “المؤلف”) وحدث بينه وبين الشيخ سالم جدل عنيف اضطر بعده سالم إلى طرده من الكويت احتجاجاً على ما قامت به قبيلته من اعتداءات فخرج من الكويت غاضباً ومتوعداً فرأى سالم أن يأخذ بعض الاحتياطات فجاءت عكس المطلوب كما سيأتي (تاريخ الكويت – عبدالعزيز الرشيد صفحة 211).  

واقعة حمض

أرسل الشيخ سالم دعيج بن سليمان القائد البري على رأس سرية إلى فيافي (قرية) أو جرية كما تسمى عادة وأمره بأن يضرب خيامه هناك تصدياً لابن شقير الذي شرع في البناء هناك وقد أمر الشيخ سالم قائده بأن لا يقوم بعمل إلا باسترشاده وعلم ابن سعود إذ ذاك بأن الفرصة قد حانت وأوعز من طرف خفي إلى فيصل الدويش بالهجوم وكان ذلك يوم 28 شعبان 1338 هـ وكانت الهزيمة شاملة لجيش دعيج ابن سليمان الذي كان مقيداً بسلاسل أوامر سالم كما يقول عبدالعزيز الرشيد وقد فقد سالم قوة عظيمة في جيشه ومالاً وفيراً يتمثل في آلاف من الإبل والأغنام التابعة للكويت. وعلى أثر هذا الحادث أرسل الشيخ سالم وفداً إلى الأمير ابن السعود وحمله رسالة يشرح فيها ما حدث ويطالب برد المنهوبات، والوفد برئاسة عبدالعزيز الحسن وعبدالله السميط (عبدالعزيز الحسن من الشخصيات المقربة عند الشيخ سالم وهو من أهالي مدينة بريدة كما ذكر لي الحاج يوسف الحميضي، أما عبدالله السميط فهو من الشخصيات الكويتية المعروفة “المؤلف”). وصل الوفد إلى الرياض وقابل ابن السعود الذي بدأ يلوم سالم على مداراته لرجال ابن الرشيد عدوه اللدود.. كذا.. ثم حرر كتاباً شديد اللهجة ومما جاء فيه الطلب إلى سالم بأن يتنازل عن سلطته على العشائر التي تحت يده وعلى أن لا يخرج من الكويت جيشاً مقاتلاً وسلم الرسالة إلى ناصر بن فرحان الذي اصطحب الوفد عند رجوعه. استلم سالم الرسالة ورد عليها بما يناسب وهو أن طلب ابن سعود وشروطه مجحفة في حق الكويت. استلم ناصر ابن فرحان الرسالة وسار بمعيته مبارك بن هيف وهلال. ووصل الرسل إلى ابن سعود وسلموه الرسالة فازداد غضباً على غضب وهدد وتوعد وعاد الرسل إلى الكويت وفجروا هذه الأخبار في صفاة الكويت والتي كانت أشبه بإعلان الحرب كما يذكر ابن الرشيد ثم يضيف أن من حظ الكويت أن تأخر هذا الإعلان حتى اكتمال بناء السور (المصدر نفسه صفحة 215) ويذكر أمين الريحاني حول حادث حمض فيقول كتب ابن السعود إلى سالم كتاباً ذكر فيه “السبب في هذا الحادث تدخلكم فيما لا يعنيكم اعلموا أن لا حق لكم في بلبول أو قرية وإني أرى أن يقرر ذلك في عهد بيننا وبينكم فنرعاه. أما ما كان لآبائك وأجدادك حقاً على آبائي وأجدادي فإني معترف به (تاريخ نجد للريحاني -صفحة 245، ودوحة بلبول أو بليبيل هي آخر حدود الكويت من الجنوب أيام الشيخ مبارك- “المؤلف”).   أما الكولونيل ديكسن فيقول ان الشيخ سالم طلب مساعدة الحكومة البريطانية مؤكداً أن ما قام به فيصل الدويش في حمض لا مبرر له ولكن ابن السعود أنكر ذلك بشدة في عدة رسائل موجهة إلى الحكومة البريطانية وألقى باللائمة كلها على الشيخ سالم. وعندما سئل ابن السعود عن الحدود التي يدعي بها أكد أن حقه حتى أسوار مدينة الكويت ولكنه أخبر بأن حكومة صاحب الجلالة تعترف بالحدود الداخلية التي رعتها الاتفاقية الإنجليزية التركية لعام 1913 على أنها تخص الكويت ولا تقبل المناقشة (إن اتفاقية 1913 بين الأتراك والبريطانيين كما سبقت الإشارة إليها قسمت الكويت إلى منطقتين الأولى منطقة مدينة الكويت وما جاورها وتبدأ من الحدود العراقية عند سفوان وتنتهي عند هضبة القرين. أما المنطقة الثانية وغالبيتها تشمل بادية الكويت التي تسكنها القبائل الخاضعة للشيخ مبارك فتشمل منطقة أوسع تبدأ من فتحة خور الزبير ثم تتجه جنوب سفوان وجبل سنام حتى يصل الباطن إلى الجنوب الغربي باتجاه حفر الباطن ثم نحو الجنوب الشرقي قرب الحبا ثم تتجه شرقا نحو جبل منيفة وبلبول أو (بليبيل) وتبلغ مساحة المنطقتين ما يقارب السبعة والخمسين ألف كيلو متراً مربعاً. ويقول عبدالعزيز الرشيد أن الشيخ سالم قدم احتجاجاً في ذي الحجة 1338 على تعديات ابن سعود وعلى طمعه في الكويت وحدودها وإصراره على عدم تسليم منهوبات الدويش فأجابته الحكومة بأنها ستعين مميزاً لتمييز الحدود بين الكويت ونجد على شرط أن يقبل الاثنان ما يحكم به. وقد أجاب الشيخ سالم:  

  • إن حدود الكويت تمتد من جزيرة العمار جنوباً إلى قرب أنطاع وإلى وبره واللهابة والقرعة واللصافة إلى حفر الباطن وشمالاً إلى جبل سنام وسفوان وأم قصر.
  • إن كلا من الحاكمين هو المسئول عما يجري في حدوده من تعديات العرب الساكنين هناك.
  • إعطاء العشائر الحرية التامة في الانضمام إلى أي حاكم يرونه أقدر على حمايتهم. ويدفعون له دون غيره زكاة أموالهم.
  • إذا حدث شيء من الغارات بين البادية أو نزاع فالفصل فيه للحاكمين أنفسهما إلا إذا عجزا فيرجع الأمر إلى وكلاء الحكومة في الكويت والبحرين.
  • تكون التجارة حرة دون معارض. تاريخ الكويت ص 216).

وفي أول جون (حزيران) أرسل الشيخ سالم وفداً إلى الرياض يشرح ما حدث في حمض ويطلب من ابن السعود إعادة المنهوبات وتعويض عائلات القتلى. رجع هذا الوفد في الثاني من يوليو (تموز) ومعه ناصر بن سعود الفرحان حاملاً رسالة من ابن سعود للشيخ سالم تشمل ذكر عدة أخطاء ارتكبها الشيخ سالم ضد ابن سعود ورعاياه مؤكداً أن الشيخ سالم لا يملك السلطة على جرية العليا أو أي بلد آخر يدعي به. كذلك أرسل ابن سعود للشيخ سالم رسالة طالباً توقيعه عليها ويطلب فيها تخليه عن جميع ما يدعي به شرق أو غرب (جرية). ولما رأى الشيخ سالم أنه من غير الممكن التوصل إلى اتفاق مشرف مع ابن سعود إلا عن طريق المساعدة البريطانية فقد طلب حالاً من حكومة صاحب الجلالة النصيحة لأجل إرسال الجواب لابن سعود موضحاً بأن المناطق المتنازع عليها إنما تعود إليه بموجب اتفاقية 1913. وقد تمت إجابته بأن لا يوقع على كتاب الاتهام الذي وجهه إليه ابن سعود وأن يلتمس رسمياً تحكيماً ودياً من قبل الحكومة البريطانية وفي الوقت نفسه تم إفهامه بأن الاتفاقية البريطانية التركية ليست وثيقة تجعله طرفاً فعالاً فيها. وعلى أي حال فإنها قد عدلت بموجب الفقرة (6) من اتفاقية 26 ديسمبر (كانون الأول) 1919 بين حكومة صاحب الجلالة وابن السعود (من الواضح أن هذا التعديل المشار إليه تم بدون علم الشيخ سالم أو موافقته وهو ما جعل ابن السعود في وضع شجعه على تجاهل ادعاءات الشيخ سالم). لقد تلقى الشيخ سالم هذه المعلومات بخيبة أمل ومرارة. وجرت عدة مراسلات طويلة بين الكويت وابن سعود والمندوب السامي البريطاني في العراق، على أثرها وافقت الحكومة البريطانية بشرط أن يتعهد كل من ابن سعود والشيخ سالم بتعهد مكتوب مقدماً بالقبول مدى الحياة بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن شعبه بقبول قرار الحكم. كذلك وطلب من الطرفين أن يجنحوا للسلم. وبعد عدة رسائل أرسل الشيخ سالم موافقته في 17 سبتمبر (أيلول) وكرر ادعاءاته السابقة. وقد عمل ابن السعود نفس الشيء في كتابه المؤرخ في 5 سبتمبر (أيلول) -تم إستلامه في 17 سبتمبر- والذي كرر فيه أن سلطة الشيخ هي داخل حدود السور الجديد حول الكويت. في الوقت نفسه أرسل ابن سعود رسالة إلى ابن شقير في (جرية العليا) يأمره فيها بناء حصن هناك حيث عارض الشيخ سالــم مثل هذا الإجــراء لا سيما أن هذا الأمر جاء بعد قبول ابن سعود شروط التحكيم التي وضعتها حكومـــة صاحب الجلالة وقد أحــدث هـــذا التصـــرف استياءاً عظيمــاً في الكويت (الكويت وجيرانها Kuwait & her neighbours P.252 – 253 ويرى القارئ تقارب ما ذكره عبدالعزيز الرشيد حول موضوع الخلاف مع ما يذكره ديكسن “المؤلف”).  

بناء السور

هناك إجماع من المواطنين والأجانب على السواء بأن بناء السور في عهد الشيخ سالم كان حدثاً عظيماً في تاريخ الكويت وكان له أثره الفعال بالنسبة لأمن الكويت وفقاً لمفاهيم تلك الأيام ولنر ما كتبه الدكتور ملري طبيب البعثة التبشيرية الأمريكية وكان في الكويت في تلك الأيام الصعبة فيقول “قام الشيخ سالم في 22 مايو (أيار) بتدشين بدء العمل في بناء سور جديد للمدينة وكان هذا ثالث سور للمدينة في تاريخ الكويت. أما السوران السابقان فقد تجاوزتهما المدينة المتسعة باستمرار منذ زمن بعيد وكان السور الجديد يمتد في شكل نصف دائري خلف الكويت من البحر إلى البحر. وكان بناء هذا السور آية في التنظيم فقد فرضت الضريبة على سكان المدينة. وتم تعيين مسئوليات محددة لرجال المدينة البارزين وعين شخص مسئول على الحفر وآخر عن الصلصال (الطين) وثالث عن المواصلات وكان الصلصال المادة الرئيسة المستعملة في البناء وبما أن بناء السور كان سيبلغ ثلاثة أميال، وسمك جداره ستة أقدام، وارتفاعه عشرين قدماً فإن كمية الصلصال المطلوبة كانت هائلة. وعين رجل آخر مسئول عن توفر الجص والملاط بكميات كافية، ورابع مسئولاً عن طعام آلاف العمال وخامس عن حل مشكلة توفير مياه الشرب للعاملين. واستمر العمل الجاد طوال الصيف اللاهب وتم بناء السور في سبتمبر أي خلال أربعة أشهر (عبدالعزيز الرشيد وديكسن يذكران مدة انتهائه بشهرين فربما يقصدان هيكل السور ويقصد الدكتور ملري التشطيبات النهائية للأبراج وغيرها “المؤلف”) وامتد السور أكثر من ثلاثة أميال وعزل المدينة تماماً من ناحية البر وقد جرى من طرفيه داخل البحر وإلى مدى أبعد من المياه الضحلة الراكدة لمنع العدو من تسلق السور أثناء الجزر. وكان للسور ثلاث بوابات وبوابة رابعة خاصة بالأمير قرب قصر دسمان (لقد أضيفت بوابة خامسة من جهة الغرب عند المسلخ القديم لا تزال آثارها باقية وتسمى بوابة المقصب).   وكانت البوابات أشبه بالحصون المنيعة وقد زود السور بأبراج لها فتحات تطلق منها النار كل ثلاثمائة ياردة وكانت هناك على طول السور عارضات خشبية يمكن للمسلحين الوقوف عليها وإطلاق النار على العدو من فتحات في الجدار. وهكذا كان السور آخر خط للدفاع وآخر إنجاز في فن الدفاع كما يفهمه العرب وأصبحت الكويت مدينة مسورة. ولم أتمالك نفسي وأنا أشهد تحفة سالم من استعادة كلمات الشيخ مبارك العظيم عندما سألته لماذا لم يبن سوراً حول الكويت وأجابني.. أنا السور! (الكويت قبل النفط صفحة 84 مخطوطة الدكتور ستانلي ملري ترجمة وتقديم دكتور محمد غانم الرميحي وباسم سرحان).   أما الشيخ عبدالعزيز الرشيد فيذكر أن “في أثر حادثة حمض التي أولجت الخوف في الأفئدة وأطارت النوم من الأعين صمم سالم على إحاطة المدينة بسور منيع ليصد عنها الهجمات ويطفئ به جمرة الخوف التي اتقدت ويخفف من الوساوس التي ساورت الناس إذ ذاك وأزعجتهم ولم يقبل فيما رأى أخذاً ولا رداً من دهشوا من تصميمه وعدوه قضاء على حريتهم التي كانوا بها متمتعين. وقد اشترك الكويتيون عموماً في بنائه وبذلوا همة عظيمة يندر مثلها ويكفي أنه لم يمض عليه إلا شهران حتى كان سوراً كاملاً وهو من الطين الخالص إلا أبراجه فمن الطين واللبن معاً، أحد طرفيه في شاطئ الجون الشرقي والآخر في الشاطئ الغربي و له أربعة أبواب منها باب (نايف) الشامية والبريعصي “الشعب” – وبنيد القار “الصباح” ولم يذكر بوابة الجهراء – وطوله خمسة أميال تقريباً وقد قام الأهالي بنفقته كلها ولم تمدهم الحكومة ولا بدرهم واحد (تاريخ الكويت صفحة 213).   أما الدكتورة الينانور كالفرلي طبيبة النساء في المستشفى الأمريكي فقد أشارت إلى بناء السور وكيف أن رجال الكويت هبوا يداً واحدة في عملية البناء وعن أحاديث النساء عند زيارتهن للمستوصف لم يكن غير موضوع السور وعن فضائح فيصل الدويش وكيف أنه في غزواته السابقة تخطى أعراف حرب الصحراء التي تمنح الحماية للنساء والأطفال، “لقد حدثنني عن كيفية معاملة جيشه للأسرى من النساء والأطفال مما لا يمكن ذكرها لبشاعتها” ثم تستمر الدكتورة في وصف السور حيث نهايته من جهة الغرب تبعد حوالي ثلاثمائة ياردة عن بيتها وكانت تشاهد الرجال المدججين بالسلاح في حركة دائمة عند الساحل بالقرب من المستشفى. وفي اليوم الثامن من أكتوبر تقدم العدو نحو الجهراء. ثم تقول “لقد علمنا أن الشيخ سالم في الجهراء وجعل مركز قيادته في القصر ولم توجد اتصالات تلغرافية أو تلفونية فكانت الأخبار تأتي متأخرة” (My Arabian days and nights, by Eleanor Caverlay M. D. page 119). وعلى ذكر بناء السور فإني أذكر جيداً تلك التجمعات الهائلة من الرجال ليلاً حيث صادف البناء صيفاً وفي شهر رمضان فكان الليل هو الوقت المناسب في تلك الأيام الصعبة. وكنت أشاهد تجمعات الرجال بعد صلاة العشاء في (براحة المطوع) من محلة القناعات. فإذا اكتمل العدد سارت تلك الجموع بأهازيجها الحماسية فمن هنا جماعة تحمل معدات البناء على أنواعها وهناك جماعة يرقصون رقصة الحرب (العرضه) على أنغام الأهازيج الشعبية وقرع الطبول. ثم تتلاقى الفرق القادمة من كل صوب ويشتد الحماس، وعند الوصول للموقع يتوزع القوم كل في جهته يمارس المهنة التي أوكلت إليه، فجماعة تخرج الماء من الآبار وأخرى تجمع الطين وتعبئه في السلال (الزبلان) المصنوعة من خوص النخيل. وكنا نحن الأطفال نمشي مع هذه الجموع الغفيرة مرة خلفها ومرة أمامها أو نندس بينها وكانت هذه المناسبة بالنسبة لنا متعة ما بعدها متعة. أما الأكبر منا سناً فكانوا يحملون الفوانيس النفطية وكانت توقد النيران هنا وهناك لزيادة الإضاءة أو لعمل الشاي، ويبقى الحال هكذا حتى قبيل موعد السحور بقليل حيث ترجع الفرق عائدة إلى المدينة ويذهب كل إلى بيته حتى الأمسية القادمة طيلة شهر ليالي رمضان من ذلك العام (1338 هـ) بهذه الصورة الرائعة من التعاون والتآزر بين أبناء الوطن الواحد تم بناء السور. لقد مضت ستون عاماً على تلك الأحداث الفريدة ولكن لا تزال آثارها عالقة بالذاكرة فكأنها حدثت في الأمس القريب.

معركة الجهراء

حدثني السيد عبدالعزيز عبدالمحسن الراشد -رجل الأعمال الكويتي المعروف- وقد شارك في تلك المعركة التي أصيب فيها بعدة جروح في جسمه. يقول “لقد كنا في القصر الأحمر مع الشيخ سالم وكنا نسمع باقتراب جيش فيصل الدويش وفي صباح ذلك اليوم -يقصد العاشر من أكتوبر- أرسل الشيخ سالم مبارك بن هيف الحجرف ليسبر حركة فيصل الدويش وإذا به بعد قليل يعود إلينا فوق صهوة جواده ملوحاً بيده مشيراً بأن الدويش يزحف بقواته على مقربة من مشارف الجهراء ولم يمض وقت طويل حتى بانت رايات الجيش الغازي وكانت ثلاث بيارق بالألوان الأبيض والأحمر والأخضر الذي هو علم ابن سعود ثم ما هي إلا لحظات حتى اشتبك الفريقان واشتد القتال و(الإخوان) لا يبالون بالموت فكلما سقط صف تقدمته صفوف وسقط منا قتلى ولكن قتلاهم أكثر ثم بدت قواتهم تتسرب في عدة جهات مما اضطر القوات الكويتية إلى التقهقر نحو القصر الأحمر، ويضيف السيد عبدالعزيز الراشد أنه وصل إلى القصر الأحمر في آخر لحظه وكان باب القصر على وشك أن يغلق ثم يقول إن المعركة انتهت في حوالي الساعة التاسعة صباحاً. وقد أخبرني الشيخ علي الخليفة الصباح وهو أحد القادة الذين اشتركوا في المعركة حيث التقيت به في لبنان قبل وفاته عام 1942. قال لي إنه كان هناك اختلاف في القيادة وعلى توزيع القوات المدافعة مما أضعف من وضع القوات الكويتية وسهل في سرعة تقدم الإخوان. ومثل هذه الخلافات غير مستغربة في مثل هذه الحروب الصحراوية غير النظامية والأمثلة على ذلك كثيرة جمعناها من رواة تلك الحروب أما الشيخ عبدالعزيز الرشيد فبعد وصفه لمقدمات المعركة وهو شاهد عيان يذكر أيضاً كيف التجأ إلى القصر (تاريخ الكويت – صفحة218 – منشورات دار مكتبة الحياة بيروت 1961) قبل أن تغلق الأبواب وكيف وجده مكتظاً بالرجال والنساء و الأطفال وعلى وجوههم إمارات الخوف والفزع. وكذلك يصف وضع الجرحى كما أدهشه ما شاهده في الشيخ سالم من الثبات ورباطة الجأش ثم يذكر عن قرار الشيخ سالم فيما بعد بإرسال مرشد الشمري ومرزوق بن متعب بن عبد الكريم طلباً للنجدة من الكويت وكيف فاجأت تلك المبادرة الجريئة الأعداء وقضت على آمالهم في استمرار الحصار على القصر. ومما زاد في بلبلة الوضع عند الإخوان نفاذ الذخيرة عند الكثير منهم. ويضيف ابن الرشيد أن فيصل الدويش أرسل أحد أعوانه المدعو مطلق بن سعود ليفاوض الشيخ سالم بالصلح وقد علم الكويتيون من الرسول عن خسائر (الإخوان) الفادحة في الأرواح ونفاذ الذخيرة. عاد الرسول إلى قومه وأخبرهم برغبة الشيخ سالم بالصلح وقد أرسل فيصل الدويش رسولاً آخر يدعى منديل بن غنيمان وهو أحد أقاربه فقال للشيخ سالم ان الدويش يريد مصالحتكم وهو يدعوكم إلى الإسلام وترك المنكرات والدخان وتكفير الأتراك (المعروف أن الأتراك تمت هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى 1914- 1918 “المؤلف”) فإن أذعنتم لما أراد أسلمكم على القصر ومن فيه فأجابه الشيخ سالم “أما الإسلام فنحن مسلمون ولم نكفر به والإسلام مبني على خمس أركان ونحن نحافظ عليها ونزيل من المنكرات ما وسعنا إزالته وأما تكفير الأتراك فلم يثبت عندنا ما يوجب التكفير”. وقد جرى ذكر فقيه (الإخوان) ابن سليمان فقال الشيخ سالم أريده أن يأتي إلى هنا ليحاور (فلان) يقصد عبدالعزيز الرشيد. ويضيف ابن الرشيد غادرنا ابن غنيمان وما بت في شيء مما جرى ولم يظهر أيضاً شدة من رفض سالم لما طلب وبعد هنيهة من ذهابه سمعنا رمياً متواصلاً قرب شاطئ البحر فقلت: قتال بين (الإخوان) وبين إخواننا من أهل السفن وبذلك ترجح لدي أن (الإخوان) خدعونا بما حصل فلما أعلمت سالماً بما رأيت ورجوته فتح الأبواب لنصرة إخواننا المقاتلين ولكنه قال لي انهم سيدافعون عن أنفسهم بأنفسهم”. ثم يضيف “غربت شمس ذلك اليوم ولم يجيء إلينا أحد فأخذنا بالاستعداد للهجوم وبعد أن مضى هزيم من الليل هجم (الإخوان) وهم رافعون الأصوات بقولهم (إبراهيم يا عمود الدين، محمد رسول الله، هبت هبوب الجنة وين أنت يا باغيها”. هجموا وهم متأبطو المعاول وحاملو الفؤوس ولكنهم ما كادوا يتقدمون خطوات قليلة حتى أصيبوا بما لم يكن في حساب أصيبوا بسوقهم وبأرجلهم من فوهات صغيرة في أسفل القصر ورجعوا خائبين خاسرين وقد أثخن فيهم القتل والتجريح” ثم يقول: “انبلج الصباح في اليوم الثاني وكانت مصيبتنا من العطش أعظم من كل مصيبة – مصيبة بلغ بنا اليأس أشده ونفذ منا ماء الجلد والصبر ولكن مركباً بخارياً خلفه سفن شراعية أبصرناه، إذ ذاك خفف علينا شيئاً من تلك الوطأة الثقيلة وكذلك ما تخيلناه من إقبال النجدات البرية وفيما نحن كذلك وقد رششنا بماء الأمل والحياة وإذا بعالم الإخوان عثمان ابن سليمان- قد أقبل لتكميل حديث الصلح فانفرد به سالم بأحد أبراج القصر وفي معيته الشيخ على الخليفة وكاتب هذه السطور فكان في حديثه لنا أن قال أن (الإخوان) هموا بالهجوم عليكم البارحة ولكن قلت إن فعلتم قبل أن تيأسوا من قبولهم الصلح فقاتلكم ومقتولكم في النار ومقتولهم في الجنة”. “صارحنا (هذا العالم التقي) بما سمعت ولم يستح من الخداع، وقد كان معه كتاب من الدويش يتضمن جل المواد التي اشترطها ابن غنيمان آنفاً وهو غير مختوم (ربما المقصود هنا بالختم التوقيع) فسلمه إلى الشيخ وطلب منه الجواب على أن يكون مختوماً ولكن سالماً أجابه عن مواده شفهياً بمثل ما أجاب ابن غنيمان وقال إني سآمر فلاناً (كاتب هذه السطور) بالجواب من غير ختم لأن كتاب الدويش كذلك ثم يضيف (ذهب ابن سليمان ليخبر الدويش بما تم وما هي إلا بضع دقائق حتى أقبل علينا فزعم أن الدويش رضي وأنه سيرحل بعد الظهر من ذلك اليوم وانتهز الإخوان فرصة الهدنة فهجموا على سفينة على شاطئ البحر مملوءة بالأطعمة فأخذوها ولما احتج سالم على ابن سليمان قال إن نهبها كان قبل تمام الصلح وأن كان بعده فدعوها طعمة (للإخوان) فهم أحوج منكم بها”.   وعلى ذكر النجدة البحرية التي أشار إليها المؤرخ في حديثه فقد روى لي السيد سعود يوسف المطوع القناعي قال “كنت بحاراً عند حسين بن علي بن رومي وفي معيته عندما أقلعت بعض السفن الشراعية من الكويت قاصدة مياه الجهراء لمساعدة الجماعة المحاصرين في القمر الأحمر وكان يتقدم تلك السفن يخت الأمير البخاري المسمى (مشرف) وعندما اقتربنا من ساحل الجهراء أطلق (مشرف) طلقة مدفع مدوية هزت المنطقة بدويها الهائل (كان في اليخت مشرف مدفع واحد يستعمل في المناسبات الرسمية) وكان لهذه الطلقة تأثيره على الأعداء وعلى المواطنين المحاصرين حيث رفعت من معنوياتهم. ثم يقول وعندما اقتربنا من الساحل نزلت أنا وبعض البحارة في قارب صغير ثم ترجلنا منه وعند وصولنا للمياه الضحلة وكان كل منا حاملاً بندقيته بيده وإذا بنا نلاحظ من بعيد اثنين من الخيالة فخلناهم من الأعداء ولما شاهدونا اعرضوا خيولهم أي أوقفوها بالعرض دلالة على أنهم من الأصدقاء ثم ترجلا فكان الأول هو الشيخ إبراهيم الفاضل الصباح وكان الثاني المدعو محمد بن غصاب فأخبرونا بأن قوات (الإخوان) فكت الحصار عن القصر وانسحبوا من موقع القتال”.   أما الدكتور ستانلي ملري فيقول “هكذا منذ شهر مايو أي منذ معركة حمض والتوتر يسود الكويت ويقول إن أشهر الحر اللاهب لا تصلح للحرب بسبب الحاجة إلى المياه وكما هو معروف فإن الحرب في تلك الأيام تشن على ظهور الخيل والجمال وكانت البندقية والرمح والسيف هي أمضى الأسلحة وأشدها فتكاً. وكان التوتر يسود الكويت فمنذ الثامن من أكتوبر 1925 بدأ فيصل الدويش يحشد قواته على مقربة من الجهراء وكان الشيخ سالم مع جيشه هناك”، ثم يواصل الدكتور وصفه للأحداث في تلك الأيام فيقول “بينما كنت أتناول الشاي مع زوجتي في شرفة منزلنا في الصباح الباكر سمعنا صوت الرصاص من الجهراء، وامتلأ الجو بالشائعات المتناقضة وأصاب الجميع حالة من الهياج وهرعوا إلى بوابات السور لأخذ أماكنهم ومساندة المدافعين عنه وكانوا مسلحين ببنادق من طراز (موزر) و(مارتين) وكانت الذخيرة متوفرة بكثرة وكان يحمل البعض السيوف والمسدسات وقد زارنا بعد الظهر المعتمد البريطاني الميجر (مور) وقال بأنه سمع بأن الشيخ سالم محاصر في قلعة الجهراء وأنه معرض للخطر الشديد وبعد حديث قصير أخذني بسيارته إلى بوابة السور الرئيسية وكان الشيخ أحمد ولي العهد هناك وأكد لنا أن كل شيء على ما يرام وأنه لا داعي للقلق ولكن المشهد الذي شاهدناه لا يدل على التفاؤل فقد كان اللاجئون من منطقة الجهراء يتدفقون على البوابة، عائلات بكاملها مع أمتعتها المنزلية وجمالها وحميرها وكلابها. وكانت بعض الجمال تأبى الدخول من البوابة لعدم تعودها على ذلك وكان الشيخ أحمد يستجوب القادمين ولكني لم أفهم منهم شيئاً لأنهم كانوا يتكلمون دفعة واحدة ويقاطعونه باستمرار بتدخلهم في الحديث وفي هذا الأثناء وصل خيالة الشيخ سالم ومعهم بعض الجرحى، وفي المساء تبين لنا أن الشيخ سالم مع معظم قواته محاصرون داخل القلعة ولديه مؤن كثيرة إنما الماء شحيح ومالح وبدا الوضع ميئوساً منه”. ويواصل الدكتور حديثه عن ذلك اليوم الأسود فيقول “وبينما كنت أنا وزوجتي نتناول طعام العشاء بعد غروب الشمس سمعنا صراخاً وعويلاً من الجانب الشرقي من المدينة وكانت الإشاعات بأن الإخوان دخلوا المدينة فاتصلت بالمعتمد السياسي بالهاتف (لم يكن الهاتف منتشراً في ذلك الوقت في الكويت وقد كان هذا هاتفاً خاصاً بين دار الاعتماد والبعثة الأمريكية الطبية. وسبب الصراخ والعويل المشار إليه هنا هو ما سبق ذكره في مقدمة الكتاب). فأخبرني أن بعض الفارين من المعركة وصل إلى إحدى البوابات وظنهم الحرس من الإخوان وتبادلوا معهم إطلاق النار ثم انكشفت الحقيقة”. أما الكولونيل ديكسن فيقول عن المعركة أن الدويش انسحب من الجهراء باتجاه الصبيحية يوم الثاني عشر من أكتوبر وأن عدد القتلى من الإخوان تجاوز الثمانمائة قتيل والجرحى كثيرون وقد مات منهم حوالي أربعمائة في الطريق إلى الصبيحية. وأن الإصابات من الكويتيين حوالي المائتين بموجب المعلومات التي تلقاها من المعتمد البريطاني ويقول أن المعركة تعتبر نصراً كبيراً للكويتيين -في نظر العرب- في الصراع الطويل الذي نشب بين ابن السعود والشيخ سالم. أما الدكتور ملري فيحدد عدد القتلى من (الاخوان) بحوالي ثمانمائة وعدد الجرحى يقابل هذا العدد وهو نفس ما ذكره المعتمد إلى ديكسن ويضيف الدكتور بأن سبب ارتفاع نسبة القتلى عند الإخوان هو استهتارهم بالحياة واعتقادهم حسب ما يوحي إليهم علماؤهم بأن مصيرهم الجنة فالأولى بهم أن يستعجلوها وأما عدد القتلى من الكويتيين فكان ثلاثة وستين رجلاً أما الجرحى فيقول ملري إن عددهم بلغ المائة والعشرين مات منهم أربعة والباقون تماثلوا للشفاء. ويذكر بأن أهل الكويت تبرعوا لمساعدة الجرحى بستة آلاف روبية وكمية كبيرة من الرز والبطانيات وكمية من الفحم تكفي مطبخ المستشفى لعدة أسابيع ويقول بأن هذا التبرع السخي كان مفاجأة له. وفي الرابع عشر من أكتوبر بعث فيصل الدويش برسالة إلى الشيخ سالم يطلب منه فيها إرسال هلال المطيري الثري والتاجر الكويتي المعروف للتفاهم معه حول حل النزاع ولكن الشيخ سالم رفض هذا الطلب وقال إن على الدويش أن يرسل أشخاصاً من عنده ونتيجة لذلك أرسل فيصل الدويش (جفران الفقم) أحد زعماء مطير حيث وصل إلى الكويت يوم الثامن عشر من الشهر ومنذ البداية تبين أن مطالبهم غير مقبولة ومنها أنه على جميع أهل الكويت أن يعتنقوا مذهب (الإخوان) ولكن الشيخ سالم أجل مقابلة الوفد مدة أسبوع وطلب مساعدة الحكومة البريطانية وتمت مقابلة الوفد يوم 24 أكتوبر وحضر جانب من المقابلة (الميجر مور) المعتمد البريطاني وسلم للوفد نسخة من إنذار الحكومة البريطانية والذي ألقي من الطائرة على قوات فيصل الدويش (ديكسن-الكويت وجيرانها) ويقول الدكتور ملري في هذا المجال أنه بعد وصول (جفران الفقم) مرسلاً من قبل الدويش وتوجيهه إنذاراً للشيخ سالم، اجتمع الشيخ سالم بوجهاء البلد وكان اجتماعاً طويلاً وعاصفاً طلب الوجهاء على أثره من الشيخ سالم تقديم طلب رسمي للحكومة البريطانية للمساعدة وقد وافق الشيخ سالم مرغماً حيث كان الشعور عند الكويتيين هو أن الكويت غير قادرة على صد الإخوان مرة ثانية. وقد وصلت في ذلك الوقت سفينة بريطانية حربية ووصلت سفينة أخرى حربية يوم 21 أكتوبر، كما وصلت طائرة في ذلك اليوم ولنترك الحديث للدكتور ملري إذ يقول “كنت أشرب الشاي مع المعتمد السياسي البريطاني حين دخل علينا قائد الطائرة وذكر أنه لم ير شيئاً من آثار (الإخوان) وكان واضحاً لي أن العدو لن يكون إلا في مكان واحد وهو الصبيحية وهي توفر المياه والمرعى الجيد للجمال كما يمكن هناك العناية بالجرحى لمدة طويلة. وسألت الطيار عما شاهده في الصبيحية فقال بيوتاً وأشجاراً ونخيلاً فقلت له ليس في الصبيحية سوى آبار موحلة ونصحته ضاحكاً بأن يأخذني معه في جولته القادمة. وقد دهشت عندما طلب مني مرافقته في صباح اليوم التالي. ووجدنا الصبيحية بسهولة حيث مخيم الإخوان وألقيت من الطائرة رسالة رسمية موجهة إلى قائد قوات الإخوان فيصل الدويش وقد ربطت الرسالة بأشرطة طويلة حمراء وبيضاء وزرقاء وقد تضمنت الرسالة تهديداً لفيصل بالانسحاب. وكان لدينا في الطائرة بضع قنابل وسأذكر دائماً وسأذكر دائماً كيف كتب لي الطيار ورقة عندما شاهد معسكر العدو جاء فيها -يا إلهي ما هذا الهدف البسيط- وكان الطيار في مقعده الخاص حيث لا يمكن تبادل الحديث معه. وتفحصنا الخيام من علو 1000 و 1500 قدم وسررت عندما شاهدت رجلاً يلتقط الرسالة الحكومية التي ألقيتها وأخذ الإخوان يطلقون الرصاص علينا من بنادقهم مما اضطرنا إلى الارتفاع في الجو (“نص الرسالة كما جاءت في كتاب تاريخ الكويت للشيخ عبدالعزيز الرشيد ويرى القارئ ضعف الترجمة بسبب قلة المترجمين الأكفاء في ذلك الوقت” – إلى الشيخ فيصل الدويش وجميع (الإخوان) الذين معه. ليكن معلوما لديكم بأنه طالما أن أفعالكم ضيقت على البادية وحتى على الجهرة أيضاً وبما أن الحكومة البريطانية لم تدع لتعمل أكثر مما هي عادتها أن تسعى بحسب الصداقة وراء الإصلاح، فأما الآن ما دام أنتم تهددون ليس فقط ضد حقوق سعادة شيخ الكويت التي تخالف تأميننا له بل ضد مصالح بريطانيا وسلامة الرعايا البريطانيين ولا يمكن بعد للحكومة البريطانية أن تقف على جانب بدون دخولها في المسألة. ثم من التأمينات التي نطق بها من مدة قصيرة سعادة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل السعود – كي. سي. أي. أي. إلى فخامة السير برسي كوكس المندوب السامي في العراق. تثق الحكومة البريطانية أن فعالكم هي بعكس إرادة وأوامر الأمير المشار إليه ولا شك أن سعادته ينبهكم بذلك عندما يعلم بأفعالكم. فبناء عليه – بهذا ننبهكم بأنه إذا تجربون أن تهجموا على مدينة الكويت فحينئذ ستحسبون مجرمين بالحرب ليس عند سعادة شيخ الكويت بل عند الحكومة البريطانية أيضاً. فالحكومة البريطانية لم تعتبر ذلك بل ستقابل هذا بأفعال عدائية بواسطة القوة التي تفتكر لائقة. هذا ما لزم إعلامه لكم. تاريخ 7 صفر 1339.   ميجر جي. سي. مور – الوكيل السياسي لدولة بريطانيا في الكويت). ويضيف الدكتور ملري:- “وصلت في يوم 22 أكتوبر سفينة حربية ثالثة وعليها السير أرنولد ولسن وكان يشغل منصب المندوب السامي بالوكالة في العراق وقام فوراً بعقد مجلس حرب على ظهر السفينة وقد حضر الاجتماع الضابط المسئول عن شعبة الخليج وقادة السفن الحربية الموجودة في الميناء والمعتمد السياسي في الكويت وقائد الطائرة وأنا وتم وضع خطط تفصيلية غطت كل الاحتمالات بما فيها احتمال إجلاء الرعايا البريطانيين والأمريكيين عن المدينة كما تم وضع خطط هجومية وأخرى دفاعية شملت المعدات والحاجات التي كان يجب إحضارها من البصرة وقد عاد السير أرنولد ويلسون إلى العراق بطريق الجو يوم 23 أكتوبر. وكان كل شيء جاهزاً يوم 24 أكتوبر. وغادر مبعوثو الإخوان الكويت بنفس اليوم وهدأت المدينة. وقد انتقلت مسئولية الموقف إلى البريطانيين وشعرت المدينة بالاطمئنان وحضر السير ويلسون ثانية يوم 24 أكتوبر وكان السور مليئاً بالمسلحين ونزلت وحدات بحرية من السفن الحربية البريطانية إلى الشاطئ ومعها مدافع رشاشة وأنيط بها حماية البوابات وتم يوم 25 أكتوبر وضع رجال الإشارة البحرية فوق منزل طبيب الإرسالية، وكان عليهم تأمين الحراسة ليلاً ونهاراً”. وكان سطح منزل الطبيب يطل على الميناء وعلى معظم السفن الحربية. ويواصل الدكتور ملري ذكر التفاصيل فيقول:- “وفي يوم 27 أكتوبر وصل قائد السرب (برنت) من العراق مع طائرتين وطلب مني أن أرافقه في رحلة استطلاعية. وكان فيصل الدويش قد أرسل رسالة نارية تبجح فيها رداً على رسالة الحكومة البريطانية التي ألقيتها فوق معسكره في الصبيحية”. “حلقنا فوق موقع الصبيحية لنجد المكان مهجوراً باستثناء خيمتين أو ثلاث ربما تركت لإيواء الجرحى الذين لم يتمكنوا من الانتقال وربما كان فيصل الدويش يفك معسكره ليفر باتجاه الجنوب في نفس الوقت الذي أملى فيه رسالته تلك وحلقنا مسافة سبعين ميلاً بعد الصبيحية فلم نجد أي أثر (للإخوان) إذ يبدوا أنهم رحلوا بسرعة كبيرة. وسرت إشاعات يوم 30 أكتوبر بأن (الإخوان) في الوفرة و لكن الاستطلاع الجوي لم يرهم ولم يهاجموا الكويت ثانية في تلك الفترة وغادرت آخر سفينة حربية ميناء الكويت يوم 6 نوفمبر وهكذا نجت الكويت مؤقتاً من الطموحات التوسعية لابن سعود وليست هذه القصة سوى جزء عام ويسير مما حصل في الكويت خلال شهر بالغ الحرج ولكنها تعطينا مثلاً على قيمة الإرسالية الأمريكية في الكويت وكل العاملين فيها وكان ذلك الشهر بالنسبة للإرسالية الأمريكية بداية عهد جديد”. هذا الوصف الدقيق، والمفصل للدكتور ملري عن حوادث ذلك الشهر المليء بالأحداث الجسام، والاهتمام الكبير الذي أظهرته السلطات البريطانية تثير الكثير من التساؤلات، ومنها لماذا تركت بريطانيا الأمور تصل إلى تلك الدرجة من الخطورة وهي العالمة ببواطن الأمور. ونحن نعرف من سير الأحداث أن العلاقات بين الشيخ سالم والإنجليز لم تكن على ما يرام منذ أن فرضوا على الكويت الحصار البحري. كما أن العلاقات بين سالم وابن السعود لم تكن بحال أحسن. فهل كان القصد من كل ما حدث إعطاء (دروس) جديدة للشيخ سالم وأهل الكويت. يقول عبدالعزيز الرشيد أن ابن سليمان الفقيه الديني الذي كان بمعية فيصل الدويش كان باستطاعته وقف الحرب بإيماءة من طرف عباءته حيث حينما قال لبعض (الإخوان) الذين استمروا بالسلب والنهب بعد هدنة القتال (أيها الإخوان إن أموال أهل الكويت عليكم حرام) وما كاد بعضهم يسمع هذا الكلام حتى ترك البعير الذي اقتاده وولى هارباً. فإذا كانت الحرب تتوقف بمجرد كلمة من أمثال ابن سليمان فما الداعي لكل ما حدث. أما الكولونيل ديكسن فيتوافق مع الدكتور ملري في معلوماته عن مجريات الأحداث فيقول أن في اليوم الثامن عشر من أكتوبر وصل إلى الكويت وفد فيصل الدويش برئاسة جفران الفقم أحد زعماء مطير. ومنذ البداية كان واضحاً أن الشروط التي كان يحملها الوفد غير مقبولة ومنها وجوب اعتناق الكويتيين لعقيدة الإخوان ولم يقابل الشيخ سالم الوفد إلا يوم 24 أكتوبر وقد حضر الميجر مور بعض هذا الاجتماع وسلم الوفد نسخة من الإنذار الذي أسقط من الطائرة على قوات فيصل الدويش. كما أخبر الميجر مور الوفد بمضمون الإنذار شفهياً وكان رد جفران الفقم للمعتمد البريطاني بأن ما قام به الإخوان ضد الشيخ سالم كان بموجب أوامر ابن سعود المباشرة وقد رد المعتمد بأنه لا يصدق هذا الادعاء وأن ابن السعود هو صديق للبريطانيين وقد أكد لهم مؤخراً بأنه لن يتحرش بالكويت وأن ابن سعود رجل شريف ويحافظ على كلمته. وقد كرر الميجر مور تحذيراته ثم انصرف من الاجتماع. كما أن الشيخ سالم رفض أن يزود الوفد بالمؤن من الكويت. وقد أكد هذه الحادثة أمين الريحاني في كتابه – تاريخ نجد – عند اجتماع وفد فيصل الدويش بالشيخ سالم والمعتمد البريطاني وهو ينقل قول المعتمد إلى رئيس الوفد “إن الشيخ سالم صديق لدولة بريطانيا البهية وأنتم جئتم تحاربونه بدون أمر من ابن السعود” فقال رئيس الوفد “ما جئنا إلا بأمره، وهو صديقكم أيضاً. ثم يضيف أمين الريحاني بأن المعتمد البريطاني سلم نسخة من الإنذار إلى رئيس الوفد الذي سلمها بدوره إلى فيصل الدويش الذي اضطر إلى شد الرحال وتوجيه كتاباً فيه لوم للشيخ سالم وقد ذكر الريحاني نص الكتاب وهو كالآتي: “من فيصل بن سلطان الدويش إلى سالم الصباح سلمنا الله وإياه من الكذب و البهتان وأجار المسلمين يوم الفزع الأكبر من الخزي والخذلان. أما بعد فمن يوم أن جاءنا ابن سليمان -يقصد فقيه الحملة الذي سبقت الإشارة إليه- يقول أنك عاهدته على الإسلام والمتابعة لا مجرد الدعوى والانتساب. كففنا عن قصرك بعد ما خرب وأمرنا برد جيش ابن سعود على أمل أن ندرك منك المقصود فلما علمنا أنك خدعتنا آمنا بالله وتوكلنا عليه. يروى عن عمر أنه قال “من خدعنا بالله انخدعنا له: فنحن بيض وجوهنا، نرجو الله أن يهديك وألا يسلطنا عليك. إياه نعبد وإياه نستعين” (تاريخ نجد – أمين الريحاني – صفحة 247-248). وفي الثلاثين من أكتوبر تبلغ الشيخ سالم بأن المندوب السامي السير برسي كوكس يرى أنه من الأمور المستعجلة وقف المزيد من سفك الدماء حتى يتم التفاهم بصورة ودية على الأمور المختلف عليها بين الشيخ سالم وابن السعود، وعلى هذا الأساس يجب عدم احتلال آبار الصبيحية من قبل كلا الطرفين وأن أية مخالفة لهذه التعليمات من قبل أي طرف سيقاوم من قبل السلاح الجوي البريطاني وقد تبلغ ابن السعود بمضمون هذه الرسالة عن طريق البحرين.

عرض للوساطة

ويواصل ديكسن الحديث فيقول انه في شهر يناير (كانون الثاني) في عام 1921 عرض خزعل خان شيخ المحمرة بأن يرسل ابنه الأكبر كاسب مع ابن أخ الشيخ سالم، الشيخ أحمد للذهاب إلى نجد للمصالحة. وقد حصل هذا العرض على الموافقة وقد سافر الوفد إلى نجد عن طريق البحرين. وكان ابن السعود مخيماً في الخفس شمال الرياض وقد وصل الوفد في الثاني من مارس وبعد يومين وصلت الأخبار بوفاة الشيخ سالم الذي وافته المنية يوم 27 فبراير (شباط) وقد أخبر ابن سعود الوفد بأن الخلاف قد انتهى ولا حاجة لإقامة حدود بين بلده والكويت. ويقول عبدالعزيز الرشيد عن الوفد أن الشيخ خزعل خان ذهب إلى البصرة ليسبر غور الحكومة البريطانية حول موضوع الصلح ولما لم يجد معارضة استعد بالهدايا والتحف لسلطان نجد ثم أم الكويت للبحث مع سالم عمن يترأس الوفد وبعد مداولات بين الاثنين تقرر أن يرأس الوفد الشيخ أحمد الجابر وكان ولياً للعهد وفي معيته الأعضاء كاسب بن الشيخ خزعل وعبداللطيف باشا المنديل وعبدالعزيز السالم البدر (عبداللطيف باشا المنديل تاجر عراقي معروف من أصل نجدي وكان وكيلاً تجارياً لابن سعود في البصرة. وقد اشترك في كثير من المؤتمرات التي عقدت بين ابن سعود وجيرانه أما عبدالعزيز السالم البدر فهو معتمد حاكم الكويت في البصرة منذ أيام الشيخ مبارك. وقد سجنه الأتراك واتهموه بالخيانة نكاية بالشيخ مبارك وإغاظة له وقد أشار إلى هذه الحادثة المحامي سليمان فيضي في مذكراته عن تلك الأيام من العهد العثماني. والموضوع لا يخلو من الطرافة والمعلومات المفيدة. يقول “أما الجرائد الأجنبية والمصرية فقد حرم دخولها العراق وسوريا سواء كانت معارضة أو مؤيدة وقد كان عقاب من يطالعها أو يقتنيها السجن أو النفي. وقد حدث مرة للشيخ مبارك وكان مشتركاً في جريدة (الخلافة) التي يصدرها في لندن بعض أحرار الترك أن كلف معتمده في البصرة عبدالعزيز السالم البدر بتحويل بدل الاشتراك إلى إدارة الجريدة المذكورة بواسطة البريد وتسجيله في دفتر حسابات الشيخ، وبناء على وشاية جاسوس تحرت الحكومة دار السيد عبدالعزيز وعثرت على المخابرات بشأن الاشتراك المذكور فأوقفته ثم حكمت عليه بالنفي إلى ديار بكر عشر سنوات. فبذل أصدقاؤه بعض الجهود لإبدال المنفى المذكور بغيره واستغرقت المخابرات بين الولاية والصدارة أربع سنوات قضاها المسكين في الموقف. ثم حدث أن وصلت فلول الجيش العثماني الفارة من نجد إلى الكويت. فأبدى أمير الكويت تماهلاً في تجهيزها بالمؤونة، فكان لا بد للحكومة العثمانية من إقناع الأمير بالعدول عن موقفه هذا. حينئذ نسب والي البصرة مخلص باشا أن يطلق سراح عبدالعزيز السالم لكي يذهب إلى الكويت للتأثير على الأمير فسافر إليها وهيأ أسباب سفر الجنود إلى البصرة ولكنه لم يعد خوفاً من نفيه ثانية بل بقي في الكويت حتى إعلان الدستور العثماني “صفحة 50 من كتاب في غمرة النضال” كذلك أشار إلى هذه الحادثة عبدالعزيز الرشيد في تاريخ الكويت. أما المؤرخ البريطاني (الوريمر) الذي عاصر تلك الفترة فيلقي ضوءاً آخر عن هذه الحادثة نرى من الفائدة ذكره وذلك بمناسبة زيارة اللورد كرزن لمنطقة الخليج بصفته نائباً للملك وحاكماً عاماً للهند حيث زار الكويت لمدة يومين (28 و 29 من نوفمبر) من عام 1903 وقد أقام له الشيخ مبارك استقبالاً فخماً عندما نزل من السفينة في ميناء الشويخ وقد أعدت له عربة خاصة أحاط بها الفرسان من كل جانب وكان الاستقبال في غاية الأبهة والروعة. وجرت أحاديث رسمية مع الشيخ مبارك تناولت عدة أمور ومنها موضوع عبدالعزيز حيث طلب الشيخ مبارك تدخل الحكومة البريطانية للإفراج عنه فوعد اللورد كرزن الشيخ مبارك بأن السفير البريطاني يسعى لتخفيف الحكم. وفي مكان آخر يشير لوريمر في كتابه دليل الخليج عن عودة فلول القوات التركية من القصيم عام 1906 وهم في حالة تعسة فلم يسمح له الشيخ مبارك بدخول الكويت وكان عدد آخر ممن وصل منهم في شهر ديسمبر يبلغ ثمانمائة ويقول لوريمر وبهدف جمع وإعادة هذا الحشد المشرد أصدرت السلطات التركية أمرها بإطلاق سراح عبدالعزيز وكيل شيخ الكويت في العراق التركي – كذا، وهنا تتفق رواية لوريمر مع رواية سليمان فيضي) ثم يقول سار الوفد إلى البحرين ومنها إلى العقير والإحساء وبعد استراحة بضعة أيام توجه الوفد إلى نجد وهناك تمت المقابلة مع ابن السعود وتناولوا المسائل اللازمة لحسم النزاع وطلب السلطان من الأمير الكفالة على عمه في قبول ما يتم عليه الصلح من الشروط بلا استثناء فأعطاه الأمير ما طلب وقدم نفسه عليه كفيلاً ثم حرر ما جرى من الشروط التي أهمها تحديد الحدود بين الكويت ونجد وطي بساط الماضي بما فيه. وفي تلك الآونة وقد أزمع الوفد على الرحيل نعي إليه وفاة الشيخ سالم فقال ابن السعود للشيخ أحمد أما الآن فحيث صار الأمر إليك فلا أرى من حاجة إلى شروط أو تحفظات فأنا لك سيف مسلول اضرب به من شئت وأنت أولى بالقبائل التي تحت أمري ولك أن تؤدب من تشاء إذا ما بدر منها اعتداء على أحد رعاياك أما حدود الكويت فإنها ستمتد إلى أسوار الرياض ولا أقبل أن تكون هي ما قطعناه به آنفاً ولك على هذا عهد الله وميثاقه ثم أخذ الورقة ومزقها ونادى المنادي بين الإخوان أن سوق الكويت ونجد والإحساء واحد ولا معارض لمن أراد السفر إلى الكويت وحذرهم من الاعتداء على من ينتسب لآل الصباح. ثم رجع الوفد بتلك البشارة وتفاءل الناس خيراً بحاكمهم الجديد.   واستمرت العلاقات الحسنة بين العاهلين حتى أن ابن السعود طلب مساعدة الشيخ أحمد في أثناء الحصار الذي ضربه على مدينة حائل حيث استمر الحصار بضعة أشهر فقدم الشيخ أحمد في محرم 1345 ستين ألف ريال وألف كيس من الأرز (نفس المصدر – صفحة 232،233،239).   هذه الفترة من الوفاق والتفاهم لم تدم طويلاً مع كل أسف فقد أشعر ابن السعود في شهر رجب من ذلك العام الشيخ أحمد بأنه مضطر لمنع رعاياه من المسابلة مع الكويت وصرفهم إلى مسابلة بلاده مثل القطيف والإحساء والجبيل وأنه لن يتنازل عما عزم عليه إلا بإقامة موظف من قبله في الكويت لجباية الرسومات من رعاياه عند مغادرتهم الكويت ولكن الأمير رفض الطلب وبقيت الحالة متوقفة إلى أن جرى بحثها في حيث أثار الموضوع معتمد بريطانيا في الكويت فأرسل السلطان عبدالعزيز السيد حمزة غوث مندوباً عنه في رمضان 1341 الذي طلب على لسان ابن سعود أحد ثلاثة أمور إما إقامة الموظف المذكور لجباية الرسوم أو أن يعين موظفاً من قبل حكومة الكويت ليتقاضى الرسوم لترسل بدورها إلى ابن السعود أو أن تسلم حكومة الكويت تعويضا مالياً مقابل الرسوم المشار إليها. وقد اجتمع الشيخ أحمد بالكويتيين الذين يعنيهم الأمر من وجهاء البلد فرفضوا قبول تلك المطالب التي قدمها المندوب واعتبروها مخلة بشرف الكويت وحكامها واستقلالها (أشارت تقارير المعتمد البريطاني في الكويت إلى حكومته بأن هناك مؤيدين ومعارضين للمشروع وكان على رأس المعارضين شملان بن على وحمد الصقر – التطور السياسي والاقتصادي للكويت بين الحربين 1914-1939 تأليف الدكتورة نجاة عبد القادر الجاسم) وأخيراً رأى سمو الأمير أن يرسل ولي العهد الشيخ عبدالله السالم للمداولة بالأمر بصورة مباشرة مع السلطان، وقد حمل معه من الهدايا عشراً من الخيل وألف وخمسمائة كيس من الأرز ومئتي كيس من السكر وكثيراً من أكياس القهوة فسار الشيخ عبدالله في شوال 1341 وفي رفقته السيد حمزة غوث وقد قابله عظمة السلطان هناك بإكرام وحفاوة عظيمين ويضيف ابن الرشيد ومع كل هذا ظلت القضية بدون حل.  

مؤتمر العقير

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن معاهدة العقير كانت امتداداً وتعديلا لمعاهدة المحمرة المعقودة بين السلطات العراقية وابن السعود والتي رفضها ابن السعود لأنها اعتبرت قبيلتي عنزة والظفير من قبائل العراق بينما ابن السعود ادعى في ذلك الوقت بأنها من قبائل نجد. إلا أن مجريات الأمور فيما بعد في مؤتمر العقير (والترضيات) التي قدمها الإنجليز له أنهت ذلك الخلاف كما سنرى. لدينا مصدران للمعلومات عن ذلك المؤتمر، المصدر الأول هو الكولونيل ديكسن (كان ديكسن معتمد بريطانيا في البحرين قبل ذلك ثم نقل إلى مهمة سياسية أخرى في العراق وتم تعيينه في عام 1929 معتمدا لدولته في الكويت) الذي حضر المؤتمر وقد جاء مبعوثاً خاصاً لبريطانيا في البحرين وهمزة الوصل بين بريطانيا وابن السعود حيث لم يكن لبريطانيا ممثل دائم في نجد أو في الإحساء والمصدر الثاني هو الكاتب اللبناني الأمريكي الجنسية أمين الريحاني (للمزيد من التفاصيل راجع ملوك العرب وتاريخ نجد للريحاني – والكويت وجيرانها للكولونيل ديكسن – صفحة 280). وقد حضر إلى العقير من البحرين قبل انعقاد المؤتمر بأيام قليلة كما يذكر في كتابه ملوك العرب. وكان الغرض الواضح من عقد المؤتمر هو تسوية مشاكل الحدود بين سلطنة نجد وملحقاتها -كما كانت تسمى في ذلك الوقت- وبين العراق وشرق الأردن بالدرجة الأولى حيث كثرت تعديات (الإخوان) على حدود العراق و الأردن. أما موضوع الكويت فمن سير الأحداث سنرى أنه كان ثانوياً على الأقل بالنسبة للأطراف الأخرى ويظهر ذلك من أن ممثل الكويت الوحيد في ذلك المؤتمر كان المعتمد البريطاني الميجر مور أما أعضاء الوفود الأخرى فكانت عن العراق المندوب السامي السير برسي كوكس والسيد صبيح نشأت وزير الأشغال والمواصلات والشيخ فهد الهذال شيخ مشايخ عنزة الذي كان لوجوده مغزى من قبل العراق ويقول الريحاني إن السلطان ابن السعود استاء كثيراً عندما علم بوجود فهد الهذال مع الوفد وقد أكد هذا ديكسن ومن حق ابن السعود أن يغضب إذ كيف يدعي تبعية قبيلة عنزة له وهذا هو شيخ المشايخ جاء مع وفد العراق لإثبات عراقيته أما وفد ابن السعود فكان برئاسته وعضوية الدكتور عبدالله الدملوجي وعبداللطيف باشا المنديل ثم أمين الريحاني الذي كان يقوم بمهمة الترجمة في بعض الأحيان كما يقول. بدأ المؤتمر أعماله في 28 نوفمبر 1922 وانتهى في الثاني من ديسمبر (كانون الأول) 1922 وحسب قول ديكسن فإن الذي حدد الحدود هو السير برسي كوكس أما دور ديكسن والميجر مور ممثل الكويت وعبدالله الدملوجي ممثل السعودية فكان ثانوياً وأن برسي كوكس اعتمد على الولاء القبلي عند تحديد الحدود. وذلك بعد جدل عقيم استمر طيلة فترة الاجتماع ووصل حد السخف كما يقول ديكسن حيث كانت الكلمة الأخيرة الفاصلة إلى ممثل بريطانيا الأول السير برسي كوكس. ومن هذا نستنتج أن الحيف الذي لحق بالكويت كان معداً له من قيل وإلا فلماذا لم يدع الشيخ أحمد الجابر شيخ الكويت إلى المؤتمر وهو صاحب الشأن الأول في تقرير مصير بلاده. ولنعود لأول فصول هذا البحث حيث ذكرنا فيه أنه في عام 1919 اتفقت بريطانيا وابن السعود على إعادة النظر في الحدود الكويتية السعودية والتي تم تحديدها في عام 1913 كما مر ذكره. ويذكر ديكسن بعد مؤتمر العقير، توجه برسي كوكس إلى الكويت ومعه الميجر مور معتمد بريطانيا في الكويت وتوجه ديكسن والوفد العراقي على متن باخرة تجارية أنزلته في الكويت ثم واصل الوفد العراقي الطريق إلى البصرة وفي اليوم التالي ذهب السير برسي كوكس والمعتمد البريطاني إلى الشيخ أحمد وكان ديكسن يقوم بمهمة السكرتير في الاجتماع وهناك فجر برسي كوكس الأخبار السيئة للشيخ أحمد وكانت صدمة عنيفة له وعندما احتج الشيخ أحمد على هذا الاتفاق ولماذا لم يستشار في مثل ذلك الأمر الهام، كان جواب كوكس أنه في تلك المناسبة التي رافقها سوء الطالع كان السيف أمضى من القلم وأنه لو لم يتنازل عن تلك الأراضي سلماً فان ابن السعود قد يأخذها عنوه وربما أخذ أكثر مما تم التنازل عنه وهكذا وجد الشيخ أحمد نفسه أمام الأمر الواقع ولم ينس هذه الإساءة من الإنجليز طيلة فترة حياته ولكن قبل وفاته بقليل في عام 1955 اتفق مع ابن السعود على إعطاء امتياز المنطقة المحايدة لشركة أمريكية وقد قام بذلك لتقوية الصداقة بينه وبين ابن السعود الذي وجد صداقته وتأييده أهم من صداقة البريطانيين الذي كان ميلهم لإسرائيل قد أثار سخط العالم الإسلامي والعرب وكان هو شخصياً من ضمن الساخطين (الكويت وجيرانها).

تجاوزات (الإخوان) ومؤتمر الكويت ثم ثورة زعماء الإخوان

من الواضح و الجلي أن السلطان عبدالعزيز بن سعود (كان الملك عبدالعزيز عند توليه السلطة الدينية والدنيوية في بداية عهده يلقب بالإمام تمشيا مع عادة آبائه وأجداده. ويقول الريحاني انه عندما قرر مؤتمر القاهرة عام 1921 ترشيح الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، عقد في الرياض مؤتمر حضره الزعماء والرؤساء وقرروا أن يتخذ حاكم نجد لقب (سلطان) وكتب ابن السعود بذلك إلى المندوب السامي في العراق يخبره بما تم ويرجو أن يكون ذلك مستحسنا لدى الحكومة البريطانية البهية. وقد اعترفت الحكومة البريطانية في 22 أغسطس (آب) لابن سعود ومن يخلفه من ذريته بلقب سلطان – (تاريخ نجد – صفحة 249) – وفي 10 يناير (كانون الثاني) 1926 نودي بالسلطان عبدالعزيز ملكاً على الحجاز وسلطانا على نجد وتوابعها وفي 23 سبتمبر (أيلول) 1932 توحدت البلاد تحت اسم المملكة العربية السعودية) فاز بحصة الأسد في مؤتمر العقير، فقد ضمنت المعاهدة له حدوداً واضحة مع العراق والكويت أما في الشمال وخاصة المنطقة التي تسكنها قبيلة الرولا برئاسة نوري شعلان والتي هي أحد فروع قبيلة عنزة فكانت في ذلك الوقت تحت النفوذ الفرنسي المسيطر على سوريا وباديتها حتى الجوف وقريات الملح. وقد ضمها ابن السعود إلى مملكته بتأييد من بريطانيا وتعينت الحدود مع شرق الأردن في عام 1925. وهكذا نرى توسع المملكة بعد أن كانت مقيدة بموجب اتفاقية دارين مع البريطانيين والتي تم عقدها في الثاني من كانون الأول (يناير) 1915 حيث نصت المادة الأولى من المعاهدة بأن الحكومة البريطانية تعترف وتقبل أن نجداً والإحساء والقطيف وجبيل وملحقاتها التي تعين هنا والمرافئ التابعة على سواحل خليج (العجم) هي تابعة للأمير ابن السعود وآبائه من قبل -والمعاهدة كما أشرنا من قبل مشابهة في نصوصها الأخرى للاتفاقيات المعقودة بين بريطانيا وإمارات الخليج-. وقد أبدلت هذه الاتفاقية في عام 1927 بما يسمى باتفاقية جدة. يذكر عبدالعزيز الرشيد بأنه في رمضان 1342 هجم ابن حثلين والفقم على أطراف الكويت ونهبوا من عربانها ورعاتها ما نهبوا وقد أرسل الشيخ أحمد (نزال) أحد رجاله ليشرح لابن سعود تفاصيل الغارة وقد اهتم ابن السعود بهذا الأمر وكتب للشيخ أحمد يعتذر عما حدث ويقول ديكسن بأن ابن السعود ذكر له عند اجتماعه به في العقير بأنه أصبح من الصعب عليه السيطرة على البدو وكبح جماح غاراتهم كما أخبره بأنه -أي ابن السعود- أعدم بعض الإخوان بسبب هذه التجاوزات وذكر له كيف أن بعض طائفة الشيعة في الحسا والقطيف منعوا من التدخين حتى في بيوتهم وحضور المواسم الدينية قي الحسينيات كما قتل الإخوان بعض الشيعة في القطيف الذين خالفوا أوامرهم. وفي مكان آخر يذكر ديكسن أن ابن السعود ضد تطرف الإخوان وهو يريد تأسيس دولة وقد وضع نظاماً لإسكان البدو في مناطق سكنية تبعدهم عن حياة البداوة ولكنه يضطر أحياناً لمجاراتهم تحقيقاً لأهداف معينة، ثم يذكر عن تعصب أولئك (الإخوان) فيقول: “إن من تعصب (الإخوان) أنهم لا يردون تحية السلام على غير (الأخ) وكان بعض الإخوان إذا صادفوا جماعة من غير مذهبهم من أهل الخليج أو أهل العراق أو من الأوروبيين غطوا وجوههم بيدهم حتى لا يتدنسوا بذلك المنظر.. وكانت هذه العادات ظاهرة للعيان وعندما كنت في الهفوف عام 1920 كان بعضهم يغطي وجهه حتى لا يراني ولما دخلت مجلس ابن السعود غادر جماعة من شيوخ الإخوان المجلس وقد غطوا وجوههم جميعاً وقد سمعتهم يرددون اللعنات لي بالرغم من كوني ضيف الإمام”. ويقول الشيخ حافظ وهبة في كتابه الجزيرة العربية في القرن العشرين: “لقد تشرب هؤلاء بكثير من المبادئ والتعاليم الناقصة حتى اعتقدوا أنها الدين وأصبحوا يعتقدون أن لبس العمامة هو السنة وأن لبس العقال من البدع المنكرة بل غالى بعضهم فجعله من لباس الكفار ويجب مقاطعة لابسه وكانوا يعتقدون أن الحضر ضالون وأن المشايخ مقصرون ومداهنون لابن السعود وقد كتموا الحق عنه وقد نال بعضهم من الإمام عبدالعزيز فرموه بموالاة الكفر والتساهل في الدين. أما شده الإخوان في مكة فحدث عنها ولا حرج فلم تكن أية هيبة للحكومة فكل ما يعتقده (الأخ) منكراً يزيله بنفسه وكثيراً ما كان الملك ابن السعود ينزل على رأيهم اتقاء للفتنة وفي سنة 1926 اضطر الملك أن ينزل على رأيهم في إيقاف تلغراف المدينة اللاسلكي وهدم بعض المساجد المقامة على القبور لأنه لم يكن يسعه غير ذلك (الجزيرة العربية في القرن العشرين صفحة 286) وكانوا يعتقدون أن غزو المجاورين واجب وأنه ألقى عليهم هذا الواجب من قبل الله فلا يسمعون أحداً في منع الغزو. ثم عقد في الأرطاوية إجتماع حضره في رؤساء الإخوان من مطير وعتيبة والعجمان تعاهدوا فيه على نصرة الدين والجهاد في سبيل الله ثم أنكروا صراحة على الملك عبدالعزيز الآتي:

  1. إرساله ولده سعود إلي مصر.
  • إرساله ولده فيصل إلى لندن بلد الشرك.
  • إستخدام السيارات والتلفونات والتلغراف.
  • الضرائب الموجودة في الحجاز ونجد.
  • الاحتجاج على الإذن لعشائر العراق وشرق الأردن بالرعي في أرض المسلمين.
  • الاحتجاج على منع المتاجرة مع الكويت، لأن أهل الكويت، إن كانوا كفاراً حوربوا وإن كانوا مسلمين فلماذا المقاطعة.
  • النظر في شيعة الإحساء والقطيف وإجبارهم على الدخول في دين أهل السنة و الجماعة (نفس المصدر ص 291).

ولندع السلطان عبدالعزيز يكابد مشكلة الإخوان التي أصبحت في آخر الأمر سيفا ذا حدين فطوراً معه وطوراً ضده كما سنرى في فصول قادمة ولنعود إلى المؤتمر الذي عقد في الكويت وأهميته وفشله في تحقيق الأهداف التي عقد من أجلها.

مؤتمر الكويت

تم عقد المؤتمر في شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 1923 م وكان الغرض منه تسوية الخلاف بين السعودية من جهة وبين الحجاز والعراق وشرقي الأردن من الجهة الثانية وقد رتبت المؤتمر الحكومة البريطانية لما لها من صلة وثيقة بجميع الأطراف المعنية فقد كان المؤتمر برئاسة الكولونيل نوكس ممثل بريطانيا في الخليج وكان مقره في بوشهر في ذلك الوقت وحضر ممثلو وفود ثلاث دول ولم يحضر ممثل الحجاز حيث كانت حجة الملك حسين بأنه ما دام بعض أراضيه محتلة من قبل ابن السعود فانه لن يرسل أي مندوب، والمقصود بالأراضي الحجازية المحتلة هي تربة والخرمة وخيبر التي احتلها ابن السعود عام 1919م. وقد استمرت الجلسات بين المراجعات والتأجيل حتى الأشهر الأولى من عام 1924م ويقول الشيخ حافظ الذي حضر المؤتمر أن السبب الحقيقي في فشل المؤتمر هو صلابة الملك حسين وتعسفه وعدم وقوف الأشراف في العراق وشرق الأردن على حقيقة الحال في نجد ثم يقول إن أحد أعضاء الوفد الأردني وهو إبراهيم هاشم أخبره أنه سمع في بغداد أن عمر سلطنة نجد لن يتجاوز ستة أشهر وقال له أحد الضباط ربما أقل ولهذا فقد كانت شروط الدول الثلاث وهي العراق والأردن والحجاز عودة الحدود النجدية الى ما قبل عام 1919 أي التخلي عن منطقة حائل ووادي سرحان والجوف وغيرها من المناطق الشمالية. التي احتلها ابن السعود وضمها الى مملكته. ويذكر الريحاني أن الملك حسين وهو في أوج مجده أبى أن يشترك في المؤتمر ونفذ إرادته في ممثلي حكومتي نجليه فحالت السياسة الهاشمية دون الاتفاق مع سلطان نجد (يذكر المؤرخ المعروف أمين سعيد في كتابه “أسرار الثورة العربية الكبرى ومأساة الشريف حسين” ص 311 بالنص “لقد اعتقد الحسين عقب استسلام حامية المدينة وجلاء الترك نهائياً عن الحجاز وتفرده بالحكم فيه أن باستطاعة القوة التي كانت تقيم على حصار المدينة أن تكتسح حدود نجد الغربية وتواصل تقدمها بدون عناء حتى الرياض والهفوف فتطفئ نور النهضة التي أوقدها الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل وترفع علم الحكومة الهاشمية على شاطئ الخليج العربي”. ثم يضيف “وسعى الانجليز سعيا حثيثاً متواصلاً سواء في إبان الحرب وبعد ختامها للتوفيق والتقريب بين صديقهما وإزالة ما هنالك من خلاف وفتور فكانوا يصطدمون بتشدد الحسين ورغبته في التفوق”) ويصف الريحاني مشهد الملك حسين عندما وصل الى عمان في 17 يناير (كانون الثاني) 1924 م وكانت مسألة الخلافة تشغل العالم الإسلامي بعد أن طرد الكماليون الخليفة العثماني فيقول كان غرض الملك حسين جس نبض العالم العربي والإسلامي. لقد شاهد جلالته في المحطة مشهداً فريداً مجيداً. كانت هناك الوفود و الجموع في الانتظار، وفود سورية و فلسطين ومشايخ العربان ورجال الحكومة من عرب وإنجليز، والصحافيون من مصر والقدس والشام وبيروت. وعندما أطل جلالته من القطار رفع الناس أصواتهم هاتفين ليحيى ملك العرب! ليحيى المنقذ الأعظم واصطف التلاميذ والجنود والفرسان حتى الطائرات البريطانية شاركت في ذلك الاحتفال الفريد ثم صعد الخطباء والشعراء مهددين الإنجليز والفرنسيين بل الأوربيين أجمعين! ثم قابل جلالته الوفود وقال أنه لا يتنازل عن مبدأ واحد من المبادئ التي هي أركان النهضة (لا أتنازل عن حق واحد من حقوق البلاد، لا أقبل أن تكون فلسطين إلا لأهلها العرب، لا أقبل بالتجزئة ولا أقبل بالانتداب ولا أسكت وفي عروقي دم عربي عن مطالبة الحكومة البريطانية بالوفاء بالعهود التي قطعتها للعرب، وإذا رفضت الحكومة البريطانية بالتعديل الذي أطلبه فإني أرفض المعاهدة كلها، أقول المعاهدة كلها. لا أوقع المعاهدة قبل أن آخذ رأي الأمة. إني عامل دائماً في سبيل الاتفاق مع أمراء العرب. إني عامل دائماً في سبيل الوحدة العربية ولا فرق عندي إذا كان مركز الحكومة العربية في الحجاز أو في سورية أو في العراق أو في نجد. وفي وسط هذا الحماس والتصريحات المدهشة أقيمت المآدب والاحتفالات وبعد الاجتماعات الخاصة برؤساء الوفود وكبار الموظفين البريطانيين نودي بالملك حسين بن علي خليفة للمسلمين وأمير للمؤمنين فبايعه السوريون والفلسطينيون وفريق من العراقيين وبعدها عاد الى مكة حاملاً لقب أمير المؤمنين وخليفة المسلمين (تاريخ نجد للريحاني – صفحة 293).   تقدرون وتضحك الأقدار: في هذه الفترة كان ابن السعود يجتمع في الرياض بزعماء القبائل وكانوا يطالبون بالسماح لهم بالحج وحدثت عدة اجتماعات حضرها رجال الدين وأخيراً قرروا الحج طوعاً أو كرهاً (ظل أهل نجد خمس سنوات لم يتمكنوا فيها من أداء فريضة الحج أي منذ اشتداد الأزمة مع الشريف حسين بعد احتلال تربة عام 1919). لقد أثبتت معركة تربة شدة بأس الإخوان وتصميمهم على القتال بعكس قوات الشريف التي عمتها الفوضى منذ بدأت المعركة فولت الأدبار. يقول الشيخ حافظ لم يكن لجلالة الملك ابن السعود أي فكرة في غزو الحجاز وفتحه حتى سنة 1923 م أولا لأنه لم يكن واثقا تمام الوثوق بإمكان تغلب قواته على الحجاز وثانياً لأنه لم يكن واثقاً من موقف الحكومة البريطانية ويحق له أن يحسب لموقفها ألف حساب فهي التي أرغمته على الرجوع الى نجد بعد معركة تربة حيث اعتبرت اعتدائه على الحجاز عملاً عدائياً موجهاً ضدها. أما الآن فقد تبدل الموقف فالملك حسين يرفض المعاهدة التي عرضتها عليه بريطانيا وتصريحاته النارية المتطرفة التي أعلن عنها في عمان وقبوله أن يكون خليفة للمسلمين دون استشارة غالبية المسلمين. ويقول ديكسن أن عجرفة الملك حسين والأخطاء التي ارتكبها عجلت في سقوطه (كان الملك عبدالله بن الحسين أحد المتفاوضين مع السلطات البريطانية حول صيغة المعاهدة بين البريطانيين وبين والده الملك حسين وقد أشار في مذكراته الصفحة 31 فيقول لقد زارني المندوب السامي في فلسطين هربرت صموئيل وقال لي أن الكولونيل لورانس العائد من جدة سيزورك ومعه حداد باشا. فإذا توفقتم لإتمام المعاهدة الإنجليزية الحجازية فسيكون المجال واسعاً لأعمال تعود بالخير عليكم وعلينا. ثم يضيف ان جاء لورانس وحداد وكان رئيس الديوان الأمير عادل ارسلان فتمت المعاهدة الحجازية الإنجليزية بعد أن فوضني المرحوم الوالد للمذاكرة بما يجعل الأمل ملؤه التوفيق. وكانت أن أثرت الجهات العربية الفلسطينية على جلالة الوالد فرفض إبرامها قبل أن يلغي وعد بلفور. فكانت هذه أن أدت إلى العقم في إيجاد تفاهم حقيقي بين بريطانيا وصاحب الثورة بعد الحرب.   ويقول المؤرخ أمين سعيد في هذا المعنى “لقد كان الحسين ذا عقلية بدوية محافظة لا تعرف المجاملة ولا تؤمن بأنصاف الحلول ولا تكذب ولا تداري، تتمسك بما تعتقد أنه الحق مع صلابة في الرأي وشدة وحزم وتحفظ نحو الأجانب وقلة الثقة بهم. وشتان ثم شتان بينه وبين الذين كتب عليه أن يعاملهم ويتصل بهم من الموظفين الإنجليز الذين شبوا وشابوا في مكاتب السياسة ودهاليزها).  

فتح الحجاز

إن فشل مؤتمر الكويت في حل مشكلة الحدود هيأ الفرص المواتية لابن السعود وجاء بعدها الخلاف الحاد بين الملك حسين والبريطانيين ورفضه توقيع المعاهدة معهم ثم المناداة به خليفة للمسلمين ومنع أهل نجد من أداء فريضة الحج، هذه الأسباب كلها مجتمعة أعطت الفرصة لابن سعود ليتصرف ويوجه ضربته القاضية. فاتح السلطان عبدالعزيز بعض زعماء القبائل الذين جاءوا لمعايدته بعيد الأضحى بموضوع غزو الحجاز فهشوا وبشوا للمشروع كما يقول الشيخ حافظ – لأنهم سيطهرون بيت الله من البدع وسيغنمون الغنائم و الأموال وقد ذاقوا حلاوتها في تربة كما سيغنمون أجر الجهاد وما أسهل استعداد البدو للغزو. ويقول ديكسن إن فتح الحجاز تم بأسرع ما كان يتوقع ابن السعود فقد احتل الإخوان الطائف في سبتمبر 1924م وفي 5 أكتوبر تنازل الملك حسين عن العرش لابنه الملك علي وقد دخل الإخوان مكة في شهر ديسمبر والتجأ الملك علي إلى جدة حيث ظل محاصرا فيها لمدة سنة وانتهى الحصار في 22 ديسمبر 1925 وظلت المدينة المنورة محاصرة عشرة أشهر حتى 5 ديسمبر 1925م (الجيش الذي حاصر المدينة واحتلها كان بقيادة فيصل الدويش) حيث لجأ الملك علي عند أخيه فيصل بالعراق والملك حسين انتقل إلى العقبة ومنها الى قبرص (لقد أقام الملك حسين في العقبة أثناء حصار جدة من قبل القوات السعودية وأخذ يمد القوات المحاصرة في جدة بالمؤن والذخائر عن طريق البحر بالتعاون مع نجله الأمير عبدالله أمير شرق الأردن وقد احتج السلطان عبدالعزيز عند السلطات البريطانية على ذلك التصرف وهدد بمهاجمة العقبة وشرق الأردن مما اضطر الإنجليز على نقل الحسين منفياً إلى جزيرة قبرص في 27 يونيو (حزيران) 1925 بإحدى البوارج الحربية وقد انتقل إلى رحمة الله في عام 1931) وهكذا انتهت مأساة البيت الهاشمي في الحجاز ونودي بالسلطان عبدالعزيز ملكاً على الحجاز في 25 جمادى الثانية 1344هـ 15 يناير كانون الثاني 1926م كما سبقت الإشارة الى ذلك.  

مشاكل الملك عبدالعزيز مع الإخوان

يقول الشيخ حافظ وهبة عن الملك عبدالعزيز “وإن لم يرغب في الإعتداءات على البلاد المجاورة المشمولة بالنفوذ الإنجليزي أو يشجع عليها فانه لم يكن يكره ذلك فما دام الإخوان يخضدون شوكة الأعداء ويعودون بالغنائم سالمين. وما دام الأعداء يسعون للقضاء عليه وعلى دولته فلا بأس من تركهم والإخوان يتصارعون (جزيرة العرب في القرن العشرين صفحة 258). ومع مرور الزمن واستفحال أمر الإخوان لا سيما بعد احتلالهم الحجاز قويت شوكتهم وقد أشرنا إلى الفقرات السبع التي أنكروها عليه واستمرت اعتداءاتهم على الجيران ولم يسلم أهل نجد من تلك الاعتداءات كما سنرى، فأعد الملك عبدالعزيز العدة لوضع حد لتلك التجاوزات التي يقودها الزعماء الثلاثة فيصل الدويش رئيس قبيلة مطير وسلطان بن حميد رئيس قبيلة عتيبة وضيدان بن حثلين رئيس قبيلة العجمان وقد استمرت اعتداءاتهم على العراق والكويت. واستفحل أمر هجمات بعض عشائر مطير على العراق والكويت وقد أرسل الشيخ أحمد احتجاجاً إلى الملك ابن السعود الذي بدوره أرسل الشيخ حافظ وهبة إلى الكويت في الثامن من ديسمبر 1927م حيث قابل المعتمد البريطاني الميجر مور ليخبره بأنه تلقى برقية من ابن سعود لإيصالها الى فخامة المندوب السامي في العراق مخبراً إياه بحراجة الموقف في نجد وأن بعض فصائل الإخوان توجهت شمالاً خلافاً لأوامره كما سلم الشيخ حافظ الى الشيخ أحمد إنذاراً مماثلاً وفي صباح اليوم التالي حلقت ثلاث طائرات من سلاح الجو البريطاني فوق المنطقة المحايدة العراقية فتعرضت لنيران حامية من بنادق بعض راكبي الجمال الذين قدر عددهم بحوالي ثلاثمائة وقد جرح أحد مأموري اللاسلكي وقد ردت الطائرات على القوة المعتدية بنيران رشاشاتها. كما أرسلت طائرات أخرى من منطقة البصية وحيث شاهدت مجموعة من الرجال والجمال يقدر عددها بحوالي ستمائة متجهة جنوباً وقد هاجمتها بنجاح وقد سبق لهذه المجموعة أن هاجمت بعض الرعاة من بدو الظفير والمنتفق وكان المعتدون هذه المرة وكما في الماضي من قبيلة مطير. وفي الثاني والعشرين من شهر ديسمبر عبر فيصل الدويش الحدود العراقية وهاجم بعض القبائل العراقية وهاجم قبيلة عبده من شمر والحق بهم خسائر فادحة. إن هذه الاعتداءات المتكررة وبهذا الوزن تحدياً لأوامر ابن السعود أثارت الإشاعات حول الوضع في نجد ومنها أن قبيلة عتيبة ربما تكون ضالعة في هذا التمرد (ديكسن – الكويت وجيرانها صفحة 289-290).    

معركة الرقعي

وفي مساء 27 يناير (كانون الثاني) 1928 وصلت الأخبار إلى الكويت بأن علي بن عشوان من أولاد واصل أحد فروع بريه من مطير ترأس قوة مؤلفة من ثلاثمائة وخمسين من راكبي الجمال وخمسين خيالا هجموا على جماعة من عريبدار من بدو الكويت في منطقة أم الرويسات التي تقع على بعد 38 ميلاً شمالي غربي الجهراء وقتلوا ثلاثة رجال منهم ونهبوا كمية لا يستهان بها من الجمال والأغنام. وحال سماع هذه الأخبار تم تجهيز كل ما وقعت عليه اليد من السيارات وملئت بالرجال المسلحين وأرسلت إلى الجهراء من الليلة نفسها وأعطيت لها التعليمات بمواصلة سيرها الى الرقعي (الركعي) التي تبعد بحوالي تسعين ميلاً الى الجنوب الغربي وذلك بقصد قطع خط الرجعة على المعتدين. وفي الساعة الرابعة والنصف من مساء يوم الثامن والعشرين من الشهر المذكور وصلت خمس عشرة سيارة من بين خمسة وعشرين أرسلت لهذه الغاية الى (الركعي) وهو عمل يستحق التقدير. حيث لم تكن توجد طرق بين الجهراء والمكان المقصود وكانت السيارات محملة بالرجال بأكثر من طاقتها بكثير -تسعة في كل سيارة في بعض الحالات- وبما أن عدد الكويتيين لم يزد على الخمسة والسبعين إلا أن تسليحهم كان جيدا وكذلك كان وجود السيارات عاملاً جديداً في حرب الصحراء في ذلك الوقت وكانت النتيجة أن القوات الكويتية أوقعت خسائر فادحة بالمعتدين واستردت قسماً كبيراً من المنهوبات وكانت إصابات الكويتيين طفيفة بما فيهم قائد الحملة الشيخ علي الخليفة الصباح الذي أصيب بجروح بالغة. وبينما كانت المعركة على وشك الانتهاء كان الشيخ علي السالم الصباح -ابن المرحوم الشيخ سالم- المشهور بالشجاعة وحماسة الشباب قد وصل متأخراً بسبب عطل في سيارته وقد تأثر لعدم مشاركته في القتال فأصر على ملاحقة المعتدين تحدياً للنصائح التي وجهت إليه، وكانت النتيجة أنه وجماعته حوصروا بمنطقة الباطن وظلوا يقاتلون حتى نفذت ذخيرتهم وكان مصيرهم القتل بعد استسلامهم. وقي اليوم التالي استطاعت القوات الجوية البريطانية تحديد موقع المعتدين وهاجمتهم بالرشاشات والقنابل ثم أعادت الكرة عليهم يوم 30 وألحقت بهم خسائر في كلا الحالتين (لقد سألت الشيخ جابر العلي نائب رئيس الوزراء ووزير الإعلام عن دقة التفاصيل التي ذكرها ديكسن عن المعركة التي استشهد فيها والده فأكد لي الشيخ جابر صحة ما ذكره ديكسن وأنه سمع هذه التفاصيل من بعض الرجال الذين اشتركوا في المعركة المذكورة “المؤلف”) ديكسن -الكويت وجيرانها-.  

مؤتمر الرياض

وفي خضم هذه الفوضى على الحدود بين العراق ونجد من جهة ونجد والكويت من جهة ثانية وما رافقها من أعمال نهب وسلب وقتل من جانب فيصل الدويش وحلفائه من زعماء البادية قرر الملك عبدالعزيز بحكمته وبعد نظرة أن يلجأ إلى العلماء والرؤساء ليعرف وجهة نظرهم ومدى تأييدهم أو معارضتهم له فغادر جدة متوجهاً الى الرياض فوصلها في ديسمبر 1928 م وأمر بعقد المؤتمر النجدي -أو الجمعية العمومية- كما سمتها جريدة أم القرى واجتمعت الجمعية العمومية في أحد أروقة القصر الداخلية وكان عدد الحاضرين نحو ثمانمائة من علماء ورؤساء حضر وبدو ولم يحضر الدويش ولا ابن بجاد. وقد افتتح الملك المؤتمر بخطبة شرح فيها تاريخه في نجد من بدء استرداده الرياض إلى الوقت الحاضر وأعماله في توحيد الجزيرة وتأمين الطرق والإخاء بين العشائر وبعد أن انتهى من خطبته عرض على الحاضرين تنازله عن العرش ووجوب اختيار غيره من آل سعود. فلم تقبل تلك الجموع تنازله وبايعوه على السمع والطاعة. وكان الملك يرمي من وراء هذا المؤتمر إجماع كلمة النجديين وإثارة حميتهم ضد الإخوان المتطرفين وقد نجح في هذه الناحية نجاحاً تاماً (جزيرة العرب في القرن العشرين – صفحة 294).   بعد هذا المؤتمر والثقة التي أحرزها استحث أهل نجد لمساعدته ضد العصاة فاستجابوا له واجتمعوا حول رايته في القصيم كما اجتمع حوله كثير من الإخوان -حرب وقحطان وبعض من مطير وعتيبة- الناقمين على الدويش وابن حميد فلما علم الاخوان بوصول ابن السعود إلى بريده اجتمعوا كلهم بعدما كانوا مشتتين وصمموا على مهاجمة ابن السعود. وقد كان مع ابن سعود سلاح آخر هو سلاح العلماء ولكن العاصين لم يعودوا يثقون بالعلماء وتقارب الفريقان في (سبلة) قرب الزلفي (جزيرة العرب في القرن العشرين – صفحة 294).  

معركة سبله

كان الوضع في بادية الكويت مضطرباً بسبب الاعتداءات المتكررة المشار إليها. وانقطع طريق السيارات بين الكويت والبصرة لمدة شهر عندما قتل أحد الرعايا الأمريكان من أعضاء البعثة التبشيرية في البصرة وكان قادماً الى الكويت بسيارته مع أحد الدبلوماسيين الأمريكان. كما حدثت عدة اعتداءات داخل الحدود الكويتية. وحول معركة (سبله) يذكر ديكسن بالتفصيل كيف هجمت قوات الملك ابن سعود فباغتت فيصل الدويش بينما كان في خيمته ولم يكن منتظراً القتال حيث كانت تدور مفاوضات بين الملك والعصاة وقد جرح فيصل الدويش جرحاً بليغاً في معدته ونقل بعدها بأمر من ابن سعود الى بلدته (الرطاوية) وكان في حالة ميئوس منها. أما سلطان بن حميد زعيم عتيبة فقد هرب الى بلدته الغطغط وتبعه الى هناك عبدالله بن عبدالرحمن أخو الملك عبدالعزيز حيث استسلم له بدون قتال وبقي في السجن حتى وفاته. أما ضيدان بن حثلين زعيم قبيلة العجمان والذي لم يشارك في موقعة (سبله) وحاز على ثناء ورضى ابن السعود فقد قتله غدراً فهد بن عبدالله بن جلوي كما أن فهد لم ينج من القتل بعد غدره هذا فقد قتله أحد رجال بن حثلين انتقاماً لمقتل زعيمهم بينما كان يحاول الفرار. العصيان يعود من جديد: كان التصور بعد معركة سبله وصول التمرد الى نهايته حيث فيصل الدويش بين الحياة والموت بعد الجرح البليغ الذي أصابه من جراء الهجوم المباغت عليه. وسلطان بن حميد زعيم عتيبة في السجن ثم مقتل ابن حثلين، كل ذلك رجح كفة الاعتقاد بأن الملك ابن السعود بدأ يتنفس الصعداء ويرتاح بعد أن تخلص من أشرس خصومه ولكن الأمر لم يكن كذلك كما سنرى.  

الفتنة تذر قرنها من جديد

يذكر الكولونيل ديكسن أن خبر مقتل ضيدان بن حثلين بتلك الطريقة المشينة انتشر انتشار النار بالهشيم في شمال شرق الجزيرة العربية مثيراً شعوراً سيئاً ضد ابن سعود علماً بأن المسئولية تقع على عبدالله بن جلوي الذي نفذت أوامره من قبل ابنه فهد (يذكر ديكسن أن فهد بن عبدالله بن جلوي الذي كان يعسكر مع بعض قواته في العوينة على مقربة من مضارب قبيلة العجمان وجه دعوة إلى ابن حثلين بحجة إبلاغه رسالة من ابن سعود وقد تعهد له خطياً بأن يكفل له الحماية. وقد استشار ضيدان رجاله الذين نصحوه بعدم الذهاب حيث كانت تفوح من تلك الدعوة رائحة الخيانة ولكنه أصر على الذهاب وبعد وصوله بقليل ألقي القبض عليه وكبل بالحديد. وقد تمكن أحد رجاله من الفرار وأخبر القبيلة بما حدث فتحركت للنجدة ولما علم فهد بتحرك العجمان أمر أحد العبيد المدعو ابن منصور -المتخصص بقطع الرؤوس- بأن يحز رقبة ضيدان فما كان من أحد رجال العجمان المدعو عبدالله بن مخيال إلا أن أطلق النار على فهد فأرداه صريعاً بينما كان يحاول الفرار) كان ذلك في اليوم الأول من شهر مايو 1929م وفي الثاني منه تحرك فرحان بن مشهور الشعلان أحد زعماء الرولا من قبيلة عنزة ومن زعماء الإخوان البارزين وكان من المقربين لابن سعود فوصل قرب آبار الصبيحية جنوب مدينة الكويت مع عدد كبير من الجمال التي نهبها من ابن مساعد أمير حائل ومنهوبات أخرى من قبائل شمر والدهامشة خلال غزواته الأخيرة، وفي اليوم الرابع تم اللقاء بينه وبين الشيخ أحمد الجابر وذكر أنه في طريقه لابن سعود للتفاهم معه على الصلح ولكنه بدلاً من الذهاب لابن سعود انضم إلى العجمان في أواسط الإحساء ومما لا جدال فيه أن حادثة العوينة قد غيرت وأثرت في مسلكه، أما فيصل الدويش الذي ظن الكثيرون أنه على فراش الموت -كذا كان يشاع قصداً- فقد بدأ يتماثل للشفاء ويعد العدة للثأر مما حدث له في معركة (سبله) ونظراً للتحالف الذي تم بين العجمان بزعامة نايف بن حثلين وانضمام فرحان بن مشهور اليهم مع بعض زعماء الإخوان نرى علم الثورة يرتفع ضد ابن سعود في شمال نجد من جبل شمر الى الخليج وتكاد تكون المنطقة كلها بيد الثوار. وفي أوائل الشهر تقدم العجمان نحو الوفرة في المنطقة المحايدة الكويتية السعودية وبناء على تعليمات من السلطات البريطانية إلى الشيخ أحمد فلم تصل إلى الثوار مؤن من الكويت كما لم يسمح لهم بدخول البلد وقد تم إبلاغ ابن سعود بذلك. ويذكر ديكسن في مناسبة أخرى حول هذا الموضوع فيقول لو وقف الإنجليز من هذا الصراع موقف الحياد ولو أيد الشيخ أحمد العصاة لكانت هزيمة ابن السعود شبه مؤكدة فقد كانت القوات النجدية المقاتلة في جانب المتمردين. وكعادة ابن سعود في استباق الأحداث فقد أرسل احتجاجا إلى الحكومة البريطانية يتهم فيها الكويت بأنها تزود الثوار بالمؤن والعتاد ويقول ديكسن -وقد أصبح في ذلك الوقت معتمداً لبريطانيا في الكويت- إن جميع التحريات التي أجراها أثبتت له بأن اتهامات ابن سعود لا أساس لها من الصحة (لقد نشر الشيخ حافظ صوراً من هذه الاحتجاجات في كتابه “خمسون عاماً قي الجزيرة العربية”) ثم يذكر أنه والشيخ أحمد استلما رسالتين فيما بعد تاريخهما في العاشر من أغسطس (آب) من الملك ابن السعود يشكرهما فيها لجهودهما في منع الإمدادات من الوصول إلى العصاة. استمر الكر والفر في الصحراء خلال صيف 1929م على الرغم من صعوبة الظروف بسبب ندرة المراعي والمياه في مثل تلك الأيام ويذكر ديكسن أنه فوجئ بخبر اختراق فيصل الدويش للحدود الكويتية من الجنوب عند الصبيحية وكانت قواته مؤلفة من خمسة آلاف مقاتل وألفين خيمة ومائة ألف جمل -منظر فريد- وكان ذلك في الثلاثين من شهر أغسطس. ويقول “قدمت تقريراً بذلك وقد جاءت التعليمات بأن أنذر الدويش بأن عليه أن يغادر الأراضي الكويتية خلال 48 ساعة وإلا فإن طائرات القوة الجوية البريطانية المرابطة في الشعيبة قرب البصرة ستبدأ بقصفه. إن أول رسول أرسل الى الصبيحية قوبل بالاستهزاء وتجنباً للعواقب الوخيمة مما سيحدث بالنظر لوجود الآلاف من النساء والأطفال بين المقاتلين فقد طلبت من فيصل الدويش ليقابلني في ملح التي تبعد خمسة عشر كيلومتراً جنوب الكويت. وخلافاً لنصيحة الشيخ أحمد لخوفه علي من الغدر ذهبت بالسيارة وحدي الى ملح ولكن الشيخ تبعني بعد ذلك مع أربعة من خدمه المسلحين وكأنه أراد أن يشاركني المصير وسأظل اذكر بالامتنان هذه البادرة منه”. “قابلنا فيصل الدويش هناك مع أربعين من رجاله من زعماء الإخوان الأشداء. إن هذا الرجل -يقصد الدويش- الذي سعى أكثر من أي عربي آخر لمساعدة ابن سعود في الصعود الى القوة والشهرة، كان قصير القامة، عريض المنكبين بأنف ورأس كبيرين يمشي بأطراف ثابتة مع انحناءه في جسمه الى الأمام. صارم وصامت بالطبيعة. لا يمكن مقارنته بمرونة ابن السعود من وجهة نظر الدبلوماسيين. لقد قلت له ما أردت قوله والتمست منه بأن يعدني بالانسحاب إلى ما وراء الحدود خلال يومين وذلك حرصاً على سلامة النساء والأطفال حيث عندي تفويض باستدعاء سلاح الطيران. وقد ظل يتردد في إعطائي أي وعد لمدة ساعة مدعياً بأنه ليس بينه وبين بريطانيا أي خلاف وأنه وقبيلته كانوا من رعايا شيخ الكويت وأنه يريد أن يعود الى ولائه السابق وهو في أمس الحاجة إلى المواد التموينية ويرجو أن يسمح له بشراء ذلك لإطعام جيشه الجائع. ومع أني تأثرت بعمق فقد كنت مصراً على ما طلبت منه وأقنعته بأن يعطيني وعداً وفيما نحن في هذا مال قرص الشمس الأحمر إلى الغروب خلف تلال المناكيش فقال فيصل لقد حان وقت الصلاة. ونادى على الصلاة بنفسه ثم أم الزعماء والقواد الى صلاة المغرب وقد تركوا بنادقهم أمامهم على طريقة الإخوان ثم انتهت الصلاة. وقبل أن ينهض هذا القائد الصحراوي الأصيل العظيم التفت إلى قائلاً “أعدك بشرفي بأني سأعمل بما تطلبه مني اذهب مع السلامة”، وقد ثبت على كلامه” (لقد كان ديكسن معجب أشد الإعجاب برجال البادية وخاصة بفيصل الدويش وأمثاله من زعماء الصحراء وكان كثير اللقاء بهم، يزورهم في مضاربهم ويدعوهم إلى بيته ويقضي بعض حوائجهم خلال إقامته الطويلة بالمنطقة “المؤلف”).   الكابتن كلوب (أبو حنيك) أو كلوب باشا: ونحن في الحديث عن حروب الصحراء لا سيما في البــوادي المشتركة بين العــراق والكويت ونجــد فلا بد من الإشــارة إلى رجــل عمل في تلك الأيـام في المنطقـة وعايش تلك الأحداث وكتب عنها في بعض ما ألف من كتب وفي كتابــه (بريطانيا والعرب) (Britains &The Arabs – Glubb Pasha Hodder & Stoughton – London – 1959) يذكر أنه قضى ست وثلاثين سنة في البلاد العربية منها عشر سنوات في العراق وست وعشرين في الأردن. والذي يهمنا الآن هي تلك الفترة التي قضاها في العراق خلال العشرينات والتي شهدت أحداثاً هامة في تاريخ الأقطار الثلاثة العراق والكويت والمملكة العربية السعودية. كان الكابتن كلوب يشغل وظيفة المفتش الإداري في بادية العراق الجنوبية أي أنه كان مختصاً بشئون البدو في المنطقة والذين عرفوه في ذلك الوقت يقولون أنه كان يعيش بنفس المستوى الذي كان يعيشه البدو كان يسكن الخيمة أو بيت الشعر يلبس ويأكل مثلهم ويتحدث معهم بلهجاتهم شأنه في ذلك شأن الذين نشأوا على شاكلته مثل لورانس العرب وفيلبي وغيرهما ويقال إنه سمي (أبو حنيك) بسبب جرح قديم بارز في فكه. وكانت المراكز الهامة والحساسة في العراق في ذلك الوقت بيد البريطانيين ومع وجود الملك فيصل الأول على رأس الدولة فان السلطة الفعلية كانت بيد المندوب السامي البريطاني لا سيما فيما يتعلق بالشؤون الخارجية. لهذا فالنزاعات القبلية التي كانت تحدث على الحدود كانت أمورها تطرح أولاً بأول أمام المندوب السامي ومستشاريه وقد كتب كلوب فصلاً عن نجد وعن حروب (الإخوان) لا سيما اعتداءاتهم على العراق وشرق الأردن وعن قسوتهم مع خصومهم. ويقول إن ابن سعود أنشأ المستوطنات الدينية (الهجر) بقصد إحياء جذوة الدعوة الوهابية الأولى ولتأخذ الاخوة الدينية مكانها بصورة أشمل. وحيث أن مالية نجد لا تكفي لإنشاء جيش نظامي فإن اعتماد ابن سعود كان على تلك المستوطنات لاستنفارها وقت الحرب حيث كل مواطن يعتبر جندياً مؤهلاً بالنسبة لمستوى الحروب الصحراوية في تلك الأيام والعدة هي الناقة والبندقية وبعض الزاد وفيما يختص بالبدو فإن حالتهم غير المستقرة تجعلهم على استعداد دائم للغزو فيكفي إشعارهم بأن ذلك البلد أو تلك القبيلة وضعها غير ودي حتى ينطلقون غزاة عتاة. لقد استعرض ابن السعود البلاد المتاخمة لنجد. فوجد نفسه مهدداً ومحاطاً بالعائلة الشريفية. فالملك حسين يحكم الحجاز بأسلوب انفرادي ضيق مما أثار عليه وبسرعة، رعاياه من الداخل، وفي عام 1921م أصبح النجل الثاني للملك حسين عبدالله أميراً على شرق الأردن بينما ابنه الثالث -فيصل- توج ملكاً على العراق . كان الملك حسين في ذلك الوقت خارج النفوذ البريطاني أو أي نفوذ آخر وقد كان ذا تشدد وعناد -ربما بحق- مع حلفائه السابقين البريطانيين بسبب احتلال الفرنسيين لسوريا وتأييد البريطانيين للصهاينة في فلسطين. وكان كل من العراق وشرق الأردن تحت الانتداب البريطاني ونتيجة لذلك فان بريطانيا وجدت نفسها ملزمة للوقوف بوجه هذين البلدين من أي عمل ضد ابن سعود وفي المقابل فهي ملزمة بالدفاع عنهما ضد أي هجوم من نجد (نفس المصدر صفحة 209). إن الأسلوب التقليدي للحرب في وسط الجزيرة العربية هو السماح للقبائل البدوية لمهاجمة العدو، هذا لا يكلف الحاكم أي شيء بينما تبقى القبائل راضية ومسرورة فإذا فشل مثل هذا الاعتداء فان الحاكم يتملص من المسئولية. وفي حالة النجاح فيكون تمهيداً لعمليات حربية منظمه. ويواصل كلوب باشا الحديث:- ولما استولى ابن سعود على ابن الرشيد -يقصد باحتلاله حائل- فإن جماعة من قبائل شمر هربوا من نجد والتجئوا إلى العراق. وقد طالب ابن سعود بإعادتهم لكن العراق ادعى بأنهم لاجئون سياسيون كذلك التجأت بعض القبائل الأخرى فيما بعد. وبسبب هذه الحوادث البسيطة لم يكن هناك أي تهديد لابن سعود لا في العراق ولا في الأردن لسببين أولهما وجود النفوذ البريطاني في البلدين وثانيهما أن الطبقات الحاكمة ليست مهتمة بحروب الصحراء والطبقة المثقفة في البلدين تريد إنشاء دولة حديثة وهم ينظرون إلى القبائل والبدو بشيء من النفور. كذلك صحيح أن أمراء الأشراف بنشأتهم بين اسطنبول والحجاز فهم ضد سيطرة ابن سعود المتزايدة على عشائر الجزيرة العربية كذلك ربما كان من الصعب على ابن السعود أن يدرك أنهما حاكمان دستوريان ولا يملكان السلطة لجر العراق أو الأردن الى الحرب. ومع الشكوك السائدة والمنافسة بين البيتين فإن ابن سعود سمح للإخوان بغزو قبائل العراق وجرت مذابح رهيبة لبعض المواطنين العراقيين في العامين 1924 و 1925 وكان أي مواطن عراقي يقع تحت رحمة الإخوان يذبح كما تذبح النعاج فهذا النوع من المجازر جعل الأمور خطرة. وقد يكون من المحتمل نهب الجمال والأغنام ولكن هناك قلة من الدول تتحمل رؤية مواطنيها يذبحون بذلك الأسلوب البشع. (نفس المصدر)   وفي أوائل 1924م حدث هجوم خطر على الأردن حيث تقدمت قوة من الإخوان يبلغ تعدادها عدة آلاف اقتحمت المنطقة الريفية من الصحراء وتقدمت إلى ما يقرب من عشرين ميلاً من عمان ولولا الصدفة التي أتاحت إلى إحدى سيارات النقل التابعة للسلاح الجوي البريطاني والذي عاد سائقها مسرعاً وأخبر بالحادث، حيث كان الإخوان يمتطون جمالهم وخيولهم ناشرين ألوية الحرب، وقد هاجمتهم الطائرات والسيارات المدرعة وألحقت بهم خسائر فادحة. و لو لم يتخذ السلاح الجوي البريطاني هذا الإجراء لكان الإخوان قد احتلوا عمان وثم قتل الكثير من سكانها. فمثل هذه الحوادث عقدت الأمور بين بريطانيا وابن السعود. ثم يشير المؤلف إلى حوادث 1927م والسنوات التي تلت ويذكر بأن ابن سعود أصبح في وضع حرج بين جيرانه من جهة وبين الإخوان من جهة أخرى. فهم -أي الإخوان- يريدون مهاجمة وتأديب (أعداء الدين) وهو يريد تحاشي التصادم مع بريطانيا المرتبطة بمعاهدات حماية مع أولئك الجيران. وفي فبراير من عام 1927 تقدم سلطان بن حميد أحد الثوار الرئيسيين لمهاجمة بعض عشائر العراق ولكنه صد على أعقابه من قبل الطائرات والسيارات المدرعة ولكنه لم يشأ أن يرتد خائباً فهاجم بعض القبائل النجدية في الأراضي السعودية وقد استغل ابن سعود هذه الحادثة حيث أظهرت نفاق الإخوان العصاة والذين يدعون بأنهم يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الدين وهكذا بدأ الملك يحشد ويجهز قواته من أهل نجد. ثم يتطرق كلوب باختصار الى معركة (سبلة) التي سبقت الإشارة إليها وأشياء أخرى سبق ذكرها في الفصول المتقدمة.  

بداية النهاية

يذكر الكولونيل ديكسن أنه في الثلاثين من أكتوبر -وبعد ذلك اللقاء الذي أشار اليه في فصل سابق في الكويت- أرسل الدويش يسأل إذا كان بإمكانه أن يقابل الشيخ أحمد أو يقابلني ثم اجتاز الحدود الكويتية مع زمرة من حراسه مخيما بالقرب من الجهراء وعملا بالتعليمات التي تلقيتها من حكومة صاحب الجلالة أخبرته بأن ينسحب حالاً وقد عاد يود الاستفهام عن ثلاثة أمور أرسلها لي بكتاب وهي:

  • إذا تحرك جنوباً إلى نجد وترك نساءه وجماله في شمال الإحساء فهل تعد حكومة بريطانيا بعدم قصفهم أو عدم السماح للقبائل العراقية لمهاجمتهم.
  • إذا هاجم ابن مساعد نساءه من الغرب في حالة غيابه فهل تسمح لهم الحكومة البريطانية بالالتجاء إلى الكويت ليكونوا تحت حماية الشيخ.
  • إذا أي من رجاله أسقط إحدى طائرات ابن سعود التي يقودها طيارون بريطانيون فهل تعتبر الحكومة البريطانية مسئولية ذلك تقع عليهم (يذكر ديكسن أن بريطانيا زودت الملك عبدالعزيز ببعض الطائرات التي كان يقودها بعض الطيارين البريطانيين المتقاعدين) ويذكر ديكسن أنه تلقى تعليمات بأن يجيب إجابة غامضة على السؤالين الأولين مع الجواب بالإيجاب على السؤال الثالث.

ويقول بعد أن تلقى الدويش هذه الأجوبة أصبح واضحاً أن إنهيار العصيان أصبح مؤكداً. وقد ثبت للدويش عدم استطاعته محاربة ابن السعود فقام ينصح اتباعه علنا بأنهم أحرار بالتخلي عنه والتفاهم مع ابن سعود علما بأنه كان لديه ما يكفيه لمحاربة ابن سعود داخل نجد لو ضمن حماية مؤخرته وقد اعتبر عدم تعهد بريطانيا بذلك انحيازاً لابن سعود الأمر الذي قصم ظهر المقاومة. وفي التاسع عشر من نوفمبر وصل الى الكويت الشيخ حافظ وهبة وقام بدعاية مكثفة ضد العصاة. وفي الخامس والعشرين من الشهر حاول اجتياز الحدود الكويتية نايف بن محمد بن حثلين لمقابلة الشيخ أحمد ولكنه منع من ذلك من قبل الشيخ أحمد نفسه. وفي التاسع والعشرين من الشهر بدأت رسائل التهديد تصل من ابن سعود تفيد بأن ابن سعود يتقدم بجيش جرار فإذا سمح الشيخ لأي من العصاة بعبور الحدود فانه -أي الشيخ- سيكون في نظر ابن سعود مسئولاً، كما بدأ الشيخ حافظ بتوزيع رسائل مماثلة على الشخصيات وأهل الكويت البارزين. وقد اشتكى الشيخ أحمد رسمياً من تصرفات الشيخ حافظ هذه إلي حكومة صاحب الجلالة وقد تم إنذار الشيخ حافظ فوراً وتحسن الموقف. وفي الثاني عشر من ديسمبر (كانون الأول) ذكر أن طلائع جيش ابن سعود في (اللصافة) وفي نفس الوقت وصلت خمس من سياراته إلى الكويت تحمل رسائل تؤكد الخبر وفي هذه الفترة بدأت قوات العصاة بالتناقص، بعضهم من التجأ إلى ابن سعود وبعض آخر إتجه جنوباً. وكان الدويش يواصل رسله إلى ابن سعود طالبا الاستسلام بموجب شروط معينة. وكان العصاة قد نصبوا خيامهم على طرفي منخفض الباطن من حفر الباطن صعوداً إلى (الرقعي)، النقطة التي تلتقي عندها الحدود الكويتية – العراقية. وعند غروب اليوم الثامن والعشرين من شهر ديسمبر تقدم محسن الفرم شيخ قبيلة حرب جناح جيش ابن سعود الأيسر، نحو شعيب الفليج مع قوة هي مزيج من قبائل حرب وشمر والظفير وبدؤوا هجومهم على العصاة عند الفجر. وقد أخذت فيصل الدويش المفاجأة بينما كان ينتظر شروط ابن سعود السلمية. وعلى أي حال فلم يكن الضرر كبيراً فقد تجمع العصاة وطردوا المهاجمين وكانت خسائرهم خمسين إصابة وخسارة العصاة ما يقارب أربعة آلاف جمل. وكان هجوم محسن هذا دون تفويض من الملك وقد رد على أعقابه ولكن شطار المؤرخين في مكة جعلوا منه معركة كبرى وحاسمة ولم يكن الأمر كذلك (نفس المصدر). ويذكر خيرالدين الزركلي عن هذه المعركة فيقول “و بات الدويش في قلة من جمعه فاستضعفه أشياخ من بادية العراق كانوا موتورين منه كابن طواله وابن سويط فاتفقوا مع عبدالمحسن الفرم (من شيوخ حرب ويقال له محسن) وغزوه يوم 28 رجب 1348هـ (30/12/1929م) فنهبوا ما طالته أيديهم ودخلوا خيمة الدويش نفسه فحملوا ما فيها وأحرقوها وعلموا بعد ذلك أن عبدالعزيز في طريقه من الثمامه إلى الباطن فأرسل إليه الفرم أوراقاً ومسودات وجدوها في خيمة الدويش كانت حجة عليه جديدة. ومن جملة الأوراق مسودتا رسالتين كانت إحداهما مسودة رسالة بعث بها الدويش الى الملك فيصل بن الحسين ملك العراق والثانية إلى (الكابتن كلوب) في العراق. نص الرسالة الأولى: “من فيصل بن سلطان الدويش الى جناب المكرم المحترم فيصل الشريف سلطان العرب سلمه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وموجب الخط إبلاغ السلام والتحية والاحترام وبعد ذلك الفو علينا رجاجيلنا اللي جو منك في قرعة مديرس شمال الحفر ومن طرف العربان أسفلهم العجمان في مهزول وفوقيهم حنا إلي ابرق الحبارى وإلى عذيبة والرحيل ومن طرف حنا في هالحدود ونجد فيها فرصة لحرب ابن سعود ولكن حنا اوذونا سرقان الظفير رعية الحكومة، بالسرق، واليوم بارك الله فيك تدري أننا ما نقدر نضرهم بسبب الحكومة وحنا نبيك تكفينا عن الحكومة ورعاياها ولأجل التفرغ الى نجد وحربها وهم يسوقوننا في طيارات وتنابيل ويقولون ارجعوا لابن سعود وإلا اشملوا مع الحجرة حدود ابن سعود الأرض ردية ولا ندري وش مراميهم في ذلك وانت سنعنا اما خذ لنا أمان من الحكومة والا سنعنا على سنع بين (الرسالة باللهجة البدوية العامية -ويعني بالحكومة- الحكومة البريطانية “المؤلف”).   الرسالة الثانية: من فيصل بن سلطان الدويش الى جناب عالي الجناب كبت قلاب (كبتن كلوب) بعد التحية والاحترام سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بعد ذلك تعلم ويتقرر في فكرك ويكون عندك معلوم أنا أهل صدق نأخذه ونعطيه ولا نعرف الغدر والخيانة وتعلم مماشينا مع ابن سعود في السابق وأنه ما وصل إلى هل المواصيل إلا بسببنا، ولما رأينا غدره وخيانته فينا خاصة وبالناس عامة فارقناه واليوم أحببنا أننا نصير رعية لكم وموامير لكم ونصير حدر يديكم وجند لكم ولا نعصي أمركم وباقي الجواب من راس الطارش أبلغ هذا ما لزم تعريف جنابكم الشريف ودمتم. حرر قي 13 رجب 1348 م. من عندنا علي بن عشوان وجاسر بن لامي وفيصل بن شبلان وابن جربوع وعلي بو شويريات وضنيتان المريخي وابن حنايا يبلغون السلام (شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز -خيرالدين الزركلي ص 503- ويستدل من أسماء الزعماء الذين جاء ذكرهم في آخر الرسالة صلة الكابتن كلوب القوية بهؤلاء الرجال وغيرهم كما أشرنا سابقاً “المؤلف”). ويقول الزركلي في 5 شعبان كان الملك عبدالعزيز قد عسكر في شعيب الباطن على سبعة كيلومترات من حدود العراق وفي المساء دخلت المعسكر سيارة تحرسها سيارتان مدرعتان نزل منها (الكابتن كلوب – المفتش الاداري للبادية الجنوبية العراقية) وعلم منه الملك عبدالعزيز أن الحكومة البريطانية لم تأذن بضرب الدويش لأن معه نساء وأطفالاً. وقد طورد في الأراضي العراقية وطلب أن يكون من رعايا العراق فرد طلبه. قال كلوب وجاءني هو وابن حثلين فأنذرتهما بالضرب إن لم يخرجا من حدود العراق في خلال يومين وقد رحل الدويش عن طريق الجهراء الى الكويت ولا يمكنني أن أتعقبه فيها لأني موظف عراقي. ثم يذكر الزركلي أن الملك عبدالعزيز أبرق من اليوم نفسه إلى المندوب السامي يطلب طرد العصاة من الكويت أو السماح له بمطاردتهم أينما ذهبوا. وفي اليوم الثاني 6 شعبان ورد جواب المندوب السامي بأن حكومته عاملة على إخراج العصاة من الكويت وفي يوم 8 شعبان وصلت برقية من رئيس المعتمدين في الخليج يطلب فيها مقابلة ابن سعود فأرسل يخبره بخطة سيره إلى بنية عيفان حيث وصلها يوم 10 شعبان فوجد فيها كتاباً يحتوي على برقية من المندوب السامي في بغداد يخبره بأن فيصل بن سلطان الدويش ونايف بن حثلين (المعروف بأبي الكلاب) وجاسر بن لامي معتقلون في بارجة بريطانية وكانوا قد استسلموا بالجهراء يوم 8 شعبان. وتناثرت فلول الدويش ومر جمع منها بقرب (بنية عيفان) يوم وصول عبدالعزيز إليها وظهر أنهم قبيلة (الصقهان) من بطون العجمان بنسائها وأطفالها ومواشيها فوثب الأمير محمد بن عبدالعزيز -وكان في الثامنة عشر من عمره- فتضرع لأبيه بأن يأذن له بقتالهم وقاد رتلا من السيارات المسلحة فأباد مقاتليهم وعاد بالغنائم والنساء والأطفال واقتنصت سيارات عبدالعزيز في موقف آخر جماعة (ابن عشوان) من شيوخ مطير فقضت عليهم وعليه (نفس المصدر).  

شروط التسليم

يقول الكولونيل ديكسن “لقد تقرر أن تتحرك بعثة إلى مخيم ابن السعود في (خبارى وضحه) التي تبعد بخط مستقيم عن الكويت بحوالي تسعين ميلاً وبطريق السيارة مائة وثلاثين ميلا جنوب غرب الكويت لبحث طريقة تسليم قادة العصاة وأتباعهم. وقد غادر الكويت بالطائرة المقيم السياسي بالخليج السير هيوبسكو ونائب ماريشال الجو (بارنيت) وأنا وكان ذلك في العشرين من شهر يناير (كانون الثاني) 1930م. كما أن الشيخ أحمد وبعض أفراد العائلة وصلوا أيضاً بطريق الجو يوم الثاني والعشرين للسلام على الملك وعادوا في اليوم التالي. وكان موقف ابن سعود في المفاوضات يميل للمصالحة وقد أبدى أسفه للهجة التي استعملت في المذكرات التي أرسلها وزير خارجيته ثم جرت مساومات جدية قبل أن يستخلص السير هيو الشروط الآتية من ابن سعود مقابل تسليم الزعماء الثلاثة، فيصل الدويش، نايف الحثلين وابن لامي الذين جلبوا الى الكويت على ظهر السفينة الحربية (لوبن) أما قبائلهم فقد تجمعت شمال الكويت. والشروط التي التزم بها ابن السعود هي:-

  1. أن يحافظ على حياة القواد وأتباعهم.
  • أي عقاب يفرضه يجب أن يتصف بالرأفة والرحمة وله الحق في استعادة المنهوبات التي نهبها العصاة من الآخرين.
  • لقد وعد بمنع أي اعتداء بالمستقبل سواء على العراق أو الكويت بواسطة العجمان أو مطير أو أي من قبائل نجد الأخرى فإذا حدث مثل هذا فانه مستعد لحسمه بدون تأخير ورد المنهوبات بموجب معاهدة بحرة بالنسبة للعراق وبموجب العرف المتبع بالنسبة لما بينه وبين الكويت وهو مستعد للتفاوض مع الكويت وعقد معاهدة شبيهة بمعاهدة بحرة إذا رغب الشيخ أحمد بذلك.
  • وعد أن يحل بنفس الأسلوب ادعاءات العراق والكويت بشرط عودة العجمان ومطير الذين هم الآن تحت حراسة القوة الجوية البريطانية مع اتباعهم وممتلكاتهم الى البلاد النجدية.
  • وافق على دفع عشرة آلاف جنيه كتعويض للقبائل المتضررة في العراق والكويت كبداية لتسوية نهائية.
  • سيعين ممثل في أي وقت في أي تحكيم بموجب اتفاقية بحرة بعد استلامه طلبا بذلك.

وقد جرى التوقيع على شروط التسليم هذه من قبل كل من ابن سعود والسير هيو بسكو وعادت البعثة الى الكويت يوم السابع والعشرين من شهر يناير. ويقول ديكسن “وفي اليوم التالي زودت زوجتي قواد التمرد الثلاثة بملابس لائقة ثم انزلوا من السفينة الحربية وأوصلوا جواً بعهدتي إلى مخيم ابن سعود. لقد وجدت الملك جالسا في فسطاط واسع مغلق محاطاً بأقاربه ورؤساء القبائل وكان اللقاء محزنا وبينما كانت الدموع تنهمر من عينيه سمح لكل من السجناء بتقبيل انفه على الطريقة البدوية ثم أجلسني بجانبه وشكرني على مسعاي لعنايتي بنساء المتمردين”.  

مصير القواد الثلاثة

لقد توفي فيصل الدويش في سجن الرياض في الثالث من أكتوبر 1931م أما بقية القواد فقد ظلوا في سجن الرياض حتى عام 1934م حيث نقلوا الى الهفوف في سجن الأتراك القديم وهو عبارة عن مغارة تحت الأرض ولم يعلم عنهم شيء فيما بعد (نفس المصدر صفحة 328). أما الشيخ حافظ وهبة فيذكر بهذه المناسبة أنه في يوم 28 يناير وصل الكولونيل ديكسن وقائد السفينة الحربية في طيارة انجليزية ومعهما الدويش ورفاقه المعتقلون فاستقبلهم الشيخ حافظ نيابة عن الملك ثم أقلتهم السيارات إلى خيمة الملك. ثم يصف حالة الدويش في تلك اللحظة ذليلاً يجر أذيال الهزيمة ويقارنها بأيام عزه عندما كان يدخل على الملك عبدالعزيز في مجلسه محاطاً بحوالي المائة والخمسين من رجاله المسلحين فيجلسه الملك إلى جانبه كقائد من قواده العظام، كان يترفع من السلام على أي مخلوق في المجلس باستثناء علماء الدين. فإذا عاد إلى بلدته (الرطاوية) عاد محملاً بالهدايا من أبسطها إلى أعلاها من الحبال والنعال إلى السلاح والجواري! ثم يشير إلى عبارات العتاب واللوم التي وجهها الملك إلى فيصل الدويش وعن اعتذار الدويش وندمه. وبعد هذا اللقاء المأساوي يأمر الملك بأن ينقل الدويش وزملائه إلى خيمة قريبة منه محاطة بالحراس حيث تم نقلهم بعد ثلاثة أيام إلى الرياض ليبقوا في الإعتقال هناك (جزيرة العرب في القرن العشرين – صفحة 299،300).

*************

مصادر البحث العربية

  • تاريخ الكويت – عبدالعزيز الرشيد – منشورات دار مكتبة الحياة بيروت.
  • تاريخ الكويت – احمد مصطفى أبو حاكمة – الجزء الأول – اشراف لجنة تاريخ الكويت 1967م.
  • من تاريخ الكويت – مرزوق سيف الشملان – مطبعة نهضة مصر 1959م.
  • مقالات عن الكويت – أحمد البشر – مكتبة الأمل – الكويت 1966م.
  • كاظمة – في الأدب والتاريخ – يعقوب يوسف غنيم – المطبعة السلفية 1958م.
  • تاريخ نجد – أمين الريحاني – المطبعة العلمية بيروت 1928م.
  • ملوك العرب – أمين الريحاني – دار الريحاني للطباعة والنشر 1960م بيروت.
  • جزيرة العرب في القرن العشرين – حافظ وهبة – مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1956م القاهرة.
  • خمسون عاماً في جزيرة العرب – حافظ وهبة – شركة مكتبة ومطبعة البابي الحلبي – 1965م القاهرة.
  • البلاد العربية السعودية – فؤاد حمزة – مكتبة النصر الحديث – الرياض – 1968م.
  • صفة جزيرة العرب – الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني – منشورات دار اليمامة – الرياض 1974م.
  • لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب – جمال بن احمد الريكي – تحقيق أحمد مصطفى أبو حاكمة – دار الثقافة – بيروت.
  • الكويت قبل النفط – دراسات خليجية – مخطوطة الدكتور ستانلي ملري – ترجمة وتقديم الدكتور- محمد غانم الرميحي – باسم سرحان.
  • البصرة في عهد الاحتلال البريطاني 1914-1921 – منشورات مركز دراسات الخليج العربي – جامعة البصرة – حميد احمد حمدان التميمي.
  • الخليج العربي دراسة في الجغرافية والسياسة د. صبري فارس الهيتي – الجمهورية العراقية وزارة الثقافة والفنون.
  • المصالح البريطانية في الكويت حتى عام 1939م – منشورات مركز دراسات الخليج العربي بجامعة البصرة – تأليف الدكتور أحمد حسن جودة – ترجمة حسن علي النجار.
  • البلاد العربية والدولة العثمانية – ساطع الحصري – دار العلم للملايين بيروت – 1965م.
  • الأوضاع السياسية لإمارات الخليج العربي وجنوب الجزيرة – الكتاب الأول – مدخل عام ودراسة للكويت الدكتور سيد نوفل – معهد البحوث والدراسات العربية – الجامعة العربية.
  • محاضرات عن الخليج العربي والعلاقات الدولية 1890-1914 – الدكتور محمود علي الداوود – 1960-1961م.
  • في غمرة النضال – مذكرات سليمان فيضي – بغداد 1952م.
  • دليل الخليج – تأليف: ج. ج. لوريمر – ترجمة – مكتب الترجمة بديوان حاكم قطر – مطابع العروبة – الدوحة – قطر.
  • صفحات من تاريخ الكويت – تأليف يوسف بن عيسى القناعي.
  • التطور السياسي والاقتصادي للكويت بين الحربين 1914-1939 تأليف نجاة عبد القادر الجاسم (أطروحة ماجستير) – القاهرة 1973.
  • أسرار الثورة العربية الكبرى ومأساة الشريف حسين – أمين سعيد – دار الكاتب العريى.
  • حقبة في تاريخ الأردن – الآثار الكاملة للملك عبدالله بن الحسين – الدار المتحدة للنشر.

مصادر البحث الأجنبية

Kuwait & her neighbours – H.R.P. Dickson

The Arab of the desert – H.R.P. Dickson

Arabian days – H.S.TJ. Philby

Britain & the Arabs – Glubb Pasha

Captain Shakespear – H.V.F. Winstone

My Arabian days and nights – Eleanor T. Calverley

Lord of Arabia – H.E. Armstrong

Description De L’arabie

Carsten Niebuhr – Mocolxxiv

Seven Pillars of Wisdom, Lawrence of Arabia

Lawrence – Douglas Orgill

*****************

************

*******