Alqenaei

الرئيسية » المكتبة » توحيد الكلمة على كلمة التوحيد في رحاب القرآن الكريم » توحيد الكلمة على كلمة التوحيد في رحاب القرآن الكريم – الجزء التاسع

توحيد الكلمة على كلمة التوحيد في رحاب القرآن الكريم – الجزء التاسع

تحريم العري وتحديد ستر العورة:

إذا كان فيما تقدم أن قصة آدم مدرسة ربانية لعلاج ما يتعرض له أبونا آدم وأمنا حواء وذريتهما من بعدهما، وإن كشف العورة في الأمكنة العامة الذي يميل إليه الكثير من الجنسين، لا يصح تركه دون بيان حكم الدين فيه، وان تركه الرضى به، وحاشا للدين أن يرضى بذلك. وعليه فإن مما يتبين من الآية 26 من سورة الأعراف التي جاءت في سياق قصة أدم – أنها تحدد لآدم وذريته أقل الملابس الواجبة لستر العورة.. ويتبين ذلك من قوله سبحانه: } يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ~ {   26/ الأعراف

 

لباس التقوى:

نعم إن الله سبحانه فد أنزل علينا لباسا يوارى سوءاتنا وريشا يزيد عن ذلك. ولباس التقوى هو ما يلبسه الرجل والمرأة في الصلاة والإحرام للحج أو العمرة، وهو أقل لباس كاف للرجل والمرأة إذ يتكون لباس الرجل من إزار يغطي ما بين السرة والركبة، ورداء يغطي أحد الكتفين. أما المرأة فتغطي جميع جسدها ماعدا الوجه والكفين، كما تؤيد ذلك السنة المطهرة. ولكن المسلمون غالوا في تستر المرأة بأكثر من لباس التقوى مما جعل ردود الفعل تطغى.. وأخذ محبو العرى يجدون منفذاً يدخلون منه إلى العري الذي يروق لهم، يؤيدهم في ذلك قشور المدنية الحاضرة. على أننا نحمد الله أن المرأة المسلمة تعود اليوم تدريجياً الى لباس التقوى.. لباس الحشمة والوقار بما لا يصف ولا يشف . على أن تبرج النساء المزري تبرج جاهلي يعود بالمؤمنات إلى جاهلية ثانية بعد أن حرم الله عليهن تبرج الجاهلية الأولى بقوله سبحانه: } ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى { 33 / الأحزاب

 

وكما قيل: كل شيء يزيد عن حده ينقلب الى ضده. علماً بأن الذين نادوا بالسفور في الماضي كقاسم أمين وهدى شعراوي – لا يقصدون الوصول الى ما هو معروف اليوم على الشواطئ والأماكن العامة، وحتى الفطرة السليمة لا تقبل ذلك. وأذكر أنني كنت أسير مع ولدي محمد وكان عمره سنتين ونصفاً تقريباً وكان الوقت شتاء ً بالكويت، وكان ذلك في الأربعينات.. إذ مرت سيدة فقيرة تغطي كامل وجهها بينما كانت حافية القدمين فقال: بابا.. لماذا تغطي عيونها وتكشف رجليها؟ وكأنما هي الفطرة جاءت على لسان هذا الطفل الصغير.

 

لباس التقوى عند أهل الكتاب:

إن دين الله واحد، وإن هذا اللباس لما عدا الوجه والكفين موجود عند أهل التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى أيضاً. إلا أن اليهود اكتفوا بعصابة تغطي الجبهة وجوانب الشعر وتبقي قمة الرأس عارية.

 

على أن المسيحيين قد التزموا بهذا اللباس للراهبات فقط، وأنهم بعد التقائهم في مؤتمر ” نيقيا ” مع الرومان على تثليث موحد – اعتبروا الناس كلهم أحراراً في الدين فيما عدا مسائل الأحوال الشخصية – كما تقدم – ولم يتقيد في الدين ولباس الدين إلا الراهبات.

 

لباس الصلاة عند المسلمين:

وإن على المرء أن بأخذ زينته المعتادة عند كل مسجد، مع الاعتدال في كل شيء مصداقاً لقوله سبحانه: } يا بنى أدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ~ { 31/ الأعراف، ويتبين من هذه الآية الكريمة أن على الإنسان أن يصل بزينته المعتادة، فإذا كانت زينته هي كشف الرأس ولبس الحذاء، فله أن يصلي بحذائه مكشوف الرأس، وليس عليه أن يغطي رأسه بقطعة ولو صغيرة كأمر ملزم. أما إذا كانت الرأس من أصل الزينة.. فعليه استعمالها في المسجد كعمامة أو الكوفية والعقال. وقد ورد عن المصطفى r (خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم). ومما ورد في حديث آخر: (الزم نعليك قدميك فإن خلعتهما فاجعلهما بين رجليك ولا تجعلهما على يمينك ولا عن يمين صاحبك ولا وراءك فتؤذي من خلفك). عن أبي هريرة – سنن ابن ماجه. ويؤيد ما تقدم الآية 32 من سورة الأعراف في قوله سبحانه:   } قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ~ {         32/ الأعراف، والزينة تشمل زينة شعر رأس الرجل، وظهوره دون غطاء في الصلاة والإحرام في حج أو عمرة كما أن لبس الحذاء مكمل للزينة والله سبحانه هو العلام الحكيم. وقد صلى رسول الله r حافياً ومنتعلاً.. كما صلى حاسر الرأس منتعلا ً وهو محرم..

 

كما أنه لا بد من الوقوف عند الآيات 67 إلى   71 من سورة ( ص ) في قوله سبحانه: } قل هو نبأ عظيم ~ أنتم عنه معرضون ~ ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون ~ إن يوحى إلي إلا إنما أنا نذير مبين ~ إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين ~ {   67 – 71 / ص

إذ يتبين من الآيتين الأوليين أن قصة أدم نبأ عظيم، وأننا معرضون عنه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ويتبين من قوله جل ّ شأنه في الآية 69: } ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون ~ { 69/ ص

 

أن الرسول r لا يتكلف المعاني لأن القرآن العظيم كتاب الزمن كله وإنه ذكر للعالمين كلهم. فالذي لا يفهم اليوم لا بد وأن يفهم بعد حين كما جاء في الآيات الثلاث 86- 88 – من ختام هذه السورة: } قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ~ إن هو إلا ذكر للعالمين ~ ولتعلمن نبأه بعد حين ~ { 86- 88/ ص

 

ويتبين أنه قد حصل اختصام في الملأ الأعلى عند قوله سبحانه: } إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين ~ { 71/ ص

وإنه من المفهوم أنه إذا كان المجتمع في الملأ الأعلى يتكون من يمين ويسار.. فلا بد من التخاصم والاختلاف. وإن الحكم العدل في هذا الخصام والخلاف هو الله سبحانه وحده وله المثل الأعلى في السماوات والأرض.

 

هيمنة الوسط:

ولا بد أن يتم الوفاق طالما وجد بين اليمين واليسار – جانب ثالث وسط صالح مهيمن يستجيب لرأبه الجانبان معاً. أما المعاند المكابر في الجانب اليساري فلا بد من طرده وإبعاده كما أبعد الشيطان من الملأ الأعلى. وعند فقد الجانب الثالث الوسط فلا بد من وجود الخلاف والصراع المؤدي إلى العزل أو الكبت القابل للانفجار مهما طال أمد الكبت، فإن القاعدة الثلاثية الكونية تفرض نفسها في الخلق كله أ لا وهي قاعدة السلب والإيجاب والحياد.

 

} فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً ~ { 43/ فاطر

 

الهدايــــة :

إن الملائكة يؤمنون إيماناً صادقاً بأن أقرب القربات إلى الله سبحانه هو ذكر الله وشكره وحسن عبادته وهذا صحيح، إلا أنهم لم يعلموا أن ذلك مطلوب منهم كغاية، ومطلوب من الإنسان كوسيلة للمعرفة والهداية والتطور العلمي الراسخ، ووضوح الرؤية والتصور الذهني المستقيم مصداقاً لقوله سبحانه: } وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ~ { 82/ طه، وقوله سبحانه في ســــــورة الفاتحــة: } إياك نعبد وإياك نستعين ~ اهدنا الصراط المستقيم ~ { 4-5/ الفاتحة، وقوله جل ّ شأنه: } واتقوا الله ويعلمكم الله{ 282/ البقرة، أو قوله r عندما سئل عن الراسخين في العلم قال: ( من طهرت سريرته، وحسنت سيرته، وعف بطنه وفرجه ). والعلم الراسخ هو العلم الثابت وليس النظريات القابلة للتغيير. ويتبين من هذا الحديث الشريف أنه لا وعي ولا استيعاب للعلم إلا بطهارة الوعاء بالتقوى والعمل الصالح كما جاء في هذا المعنى قوله سبحانه: } إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشى إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ~ { 18/ التوبة

 

ويبين معنى هذه الآية.. والآيات بعدها في قوله سبحانه: } أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين ~ {   19/ التوبة

 

الإنسان بين الملائكة والشيطان:

إن الهدى من الله سبحانه إرسال لا يتلقاه المؤمن إلا بحسن استقبال مصدقاً لقوله سبحانه على لسان بعض رسله: } قل يا قومي أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ~ { 28/ هود

والعكس صحيح أيضاً، بدليل قوله سبحانه: } وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها { 26/ الفتح، وقــوله سبحـــــانه: } نور على نور يهدي الله بنوره من يشاء {   25/ النور، وتشتمل الآية على نورين: نور إرسال من الله سبحانه ونور استقبال من عباده الصالحين المستجيبين لدعوة الحق.

 

والمعروف أن خريجي الجامعات العالمية كثيرون.. ولكن المتفوقين منهم قلائل ابتعدوا عن سفاسف الأمور واتجهوا نحو جلائلها بالجد والدأب والجهد فبزوا سواهم بأذهانهم المستنيرة واكتشافاتهم العلمية الصغيرة والكبيرة. واكتشاف العلم هو اكتشاف الجهل به قبل ذلك.وإن الملائكة الكرام الذين سجدوا لآدم في الملأ الأعلى.. مسخرون لهذا المخلوق الطيني الحيادي الوسط في الدنيا، ككتبة وحفظة له ولذريته، ولمحاولة إبعادهم عن الانزلاق والانحراف نحو التطرف اليميني أو التطرف اليساري للحفاظ على الوسطية المثلى ممن قاله الله سبحانه فيهم في سورة الواقعة: } وكنتم أزواجاً ثلاثة ~ فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ~ وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة ~ والسابقون السابقون ~ أولئك المقربون ~ { 7-11/ الواقعة

 

وقد تكرر مثل هذا المعني ثلاث مرات في سورة الواقعة. ومن ذلك يتبين أن الوسط الأمثل هو الأولى لهذا المخلوق الوسط بلا تطرف يميني أو تطرف يساري. فإذا كان التطرف اليميني أشد خطراً وأكثر ضراراً من التطرف اليساري فلأن الحذر من الثاني مستطاع، والصراع معه ممكن، والتهادن معه جائز. أما اليميني فهو معك متشح بوشاح الدين ويأتيك عن اليمين.

 

ومما يدل على أن التطرف اليميني أخطر من التطرف اليساري ما جاء في بعض آيات سورة الصافات من تخاصم بين التابعين والمتبوعين يوم الحساب، أذكر منها الآيتين: } وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ~ قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ~ { 27-28/ الصافات، ويتبين من هاتين الآيتين قول التابعين للمتبوعين لو أنكم كنتم تأتوننا عن اليسار لتبعدونا عن الإيمان بالله لأخذنا حذرنا منكم ولما قبلنا توجيهاتكم ولكنكم كنتم تأتوننا عن اليمين بقولكم مثلا ً: إن هذا الوثن يقربكم إلى الله زلفى، أو أن صاحب هذا القبر صالح يشفع لكم بصلاحه، وإن في تقديسه تقرباً إلى الله. ولقد أحببنا الله عن هذا الطريق اليميني الخاطئ الذي خدعتمونا به.

 

كما أن الملائكة يحاولون إبعاد هذا الإنسان عن الانحراف عن الوسط الأمثل نحو اليمين المتطرف فإنهم يحاولون إبعاده عن الانحراف نحو اليسار المتطرف أيضا َ، وعن جميع وساوس شياطين الجن والإنس وإغراءاتهم في استغلال نقط الضعف ومواطن الحرمان عند هذا المخلوق الوسط ما لم يتمرد عليهم منحازاً إلى أحد التطرفين – يميناً أو يساراً مصراً مستكبراً. ولم يعلموا أن بقاءهم متمسكين في العبادة والغيرة على الله سبحانه من خلق مفسد سفاك للدماء لا يسبح لله ولا يقدسه حق التقديس – ناتج عن ضالة تأثير الشيطان وذلك لصغره أمامه.. وإن الله قد حماهم من مثل زيادة في التأثير أدت بالملكين ببابل.. هاروت وماروت إلى انحراف عن الطريق السوي والصراط المستقيم . ولكن الله سبحانه يعلم ذلك كله وهو العلام الحكيم.

 

وإن في تأخير الله سبحانه العذاب عن إبليس وأنظاره إلى يوم البعث.. محافظة على الوسطية المثلى لهذا المخلوق كحياد – بين الإيجاب والسلب. ولولا ذلك لانحاز أبونا آدم نحو الملائكة الكرام – بحالة التقرب من التصوف العالمي والرهبنة العالمية المكسلة والمعطلة عن التقدم في العلوم والاتقاء في المدارك والانشغال في العبادة المجردة عن عمارة الأرض والاستفادة من خيراتها، وهذا ما لا يريده الله سبحانه لهذا المخلوق الأمثل بوسطيته وحياده الإيجابي، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأنه سبحانه على كل شيء قدير.