Alqenaei

الرئيسية » المكتبة » توحيد الكلمة على كلمة التوحيد في رحاب القرآن الكريم » توحيد الكلمة على كلمة التوحيد في رحاب القرآن الكريم – الجزء السابع

توحيد الكلمة على كلمة التوحيد في رحاب القرآن الكريم – الجزء السابع

لمحة عن الإسلام والمسيحيين الروم

إن اللقاء التام فيما بين التثليثين المسيحي والروماني، واندماج المسيحية بالقومية الرومانية جعل منها قوة عالمية لا تقابلها في المكانة والمنافسة إلا دولة الفرس المجوس. وقد كان التنافس بين الدولتين مستمراً، وكانت الحرب بينهما سجالاً بين هزيمة ونصر – حتى بزوغ فجر الإسلام علماً بأن المسلمين كانوا يتحمسون لنصر الروم على الفرس ويستفتحون به على المشركين، لأن الإسلام يعتبر الروم أهل كتاب كما أن المسلمين أهل كتاب، ويعتبر الفرس المجوس في وزن المشركين لأنهم ليسوا أهل كتاب في مقابل انتصار المشركين للفرس.

 

وبينما كان المسلمون والمشركون يستفتح كل منهم على الآخر بنصر من يحب في حرب كانت قائمة بين الفرس والروم، إذا بسورة قرآنية تنزل مخبرة بهزيمة الروم في هذه المعركة ومبشرة بنصرهم خلال بضع سنين كوعد من الله، مع بشارة أكبر للمسلمين في أن النصر سيكون – بعد نصر الروم الأخير – للمسلمين على الدولتين معاً ألا وهي سورة الروم.

وقد جاء في مستهلها بعد البسملة: } ألم ~ غلبت الروم ~ في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ~ في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون ~ بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ~ وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون ~ {   1-6/ الروم

 

ومما تجدر الإشارة إليه والوقوف عنده أن النصر قد تم للروم ولم تقم أي حرب بين الروم والفرس بعد انتصار الروم الأخير، بل تحول النصر للمسلمين على الدولتين معاً وصدق الله العظيم. فقد أتم الله وعده وأعز جنده ونصر عبده. (أن الله لا يخلف الميعاد).

 

تفضيل الروم

وطالما أن خاتم النبيين محمد رسول الله وأصحابه عليهم جميعاً صلاة الله وسلامه كانوا يفضلون الروم على الفرس، وإن حديث التناصر المتقدم ينعت المسيحيين بالروم .. فإنه لا يسعنا إلا ما وسع رسول الله وأصحابه من تفضيل الروم – أي المسيحيين – والتناصر معهم على أعداء الأمتين معاً ولا سيما إذا كانت مصلحتهم تقتضي التعاون معاً تعاونا صادقاً، وإن دورنا في النصر آت، وكل آت قريب بإذن الله } إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم { 11/ الرعد

} ويومئذ يفرح المؤمنون ~ بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ~ {   4-5/ الروم

 

اللقاء على التناصر بين المسلمين والمسيحيين

أن ما حدا بي إلى كتابة ما كتبته حول الأمور المختلف عليها بين المسلمين والمسيحيين – هو ما قرأته في الحديث الشريف المتقدم عن النصر الذي سيفوز به المسلمون فينصرون الروم في حرب عدو مشترك، وما أشار إليه الحديث من حدوث خلاف بعد النصر حول إدعاء ناعق فاسق –أو دسيسة مغرض– بأن هذا النصر هو النصر هو نصر للصليب. ولا يخفى ما في ذلك من تجاهل لمسلمين الذين يمثلون جانباً مهماً في هذا النصر. ونعيد الحديث الشريف هنا مرة: (ستصالحكم الروم صلحاً آمناً ثم تغزون وهم عدواً فتنصرون وتسلمون وتغنمون ثم تنصرون الروم حتى تنزلوا بمرج ذي تلول فيرفع رجل من النصرانية صليبا فيقول غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيقوم إليه فيدفعه فعند ذلك يغدر الروم ويجمعون للملحمة).

 

وعليه فإذا كان اللقاء على النصر ثم الاختلاف بعده كثيراً ما يحدث عند الأمم، وهذا ما يخشاه كل عاقل من الطرفين فيعمل على تحاشي وقوعه – ما لم تطغ الغوغائية على أصحاب العقول– وعليه أفلا نجد لقاء جامعاً بين المسيحيين والمسلمين على كلمة سواء بيننا وبينهم يتم عليها الإيمان من الجميع؟ وإذا كان التثليث أمراً محبباً لدى الكثير في العقائد والشعارات وفي القواعد الكونية للخلائق كقاعدة الإيجاب والسلب والحياد، وقاعدة اليمين واليسار والوسط، وإن في كل طائر ومخلوق وصف ميمنة وميسرة ومقدمة في الوسط كما تقدم تحت عنوان التثليث، فهلا نجد شعار التوحيد وإيمان تطمئن إليه نفوس إخواننا المسيحيين دون أن يتعارض مع التوحيد الخالص. وإذا كانت وحدانية الله سبحانه لا تتعدد ولا تتجزأ فإن له سبحانه أسماء حسنى وصفات جلى، } ليس كمثله شيء وهو السميع البصير {، وإن القرآن العظيم الذي فيه خبر ما قبلنا ونبأ ما بعدنا وحكم ما بيننا لا يخلو مما تتوق النفس إليه، ويجمع بين هاتين الأمتين الكبيرتين على شعار إيمان وتوحيد – أفضل وأعظم مما اجتمع عليه الرومان والمسيحيون في مؤتمر ” نيقيا ” في الربع الأول من القرن الرابع الميلادي – علماً بأن المسيحية تميل كثيرا ًإلى بسم الله الرحمن الرحيم، وينعتون أمواتهم بقولهم   ” فلان ” مثلث الرحمات، وإن ردهم في الغالب على المسلمين بأن اعتقادنا في التثليث لا يتعارض مع اعتقادكم في بسم الله، الله، الرحمن، الرحيم.

(إله واحد) وقد رأيت عنوان كتاب لأحد المسيحيين اللبنانيين افتتحه في (بسم الله الثاني)، ولا شك أنه يقصد اسم الرحمن.. وهو الاسم الثاني لله بعد لفظ الجلالة مصدقاً لقوله سبحانه: } قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى {   110/ الإسراء

 

وطالما أننا وجدنا في بسم الله الرحمن الرحيم المدخل إلى التوحيد الخالص الجامع المقبول عند المسلمين والمسيحيين معاً فإن الإنسان يحب من كل قلبه أن يجد دليلاً يؤيد له هذا الاتجاه في كتاب الله الكريم ليطمئن إلى أن اتجاهه كان سليماً مؤيداً من الله الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو ولا معبود بحق سواه – لكي لا يبقى في صدور البعض راسبة شك أو شائبة ريب ، ملتقين مع جميع أنبياء الله ورسله في التوحيد الخالص من آدم إلى محمد عليهم جميعاً صلاة الله وسلامه مؤمنين بهم جميعاً لا نفرق بين أحد منهم على أني أرجو أن أكون قد وجدت هذا المعنى في الآيتين 30 – 31 من سورة المدثر: } عليها تسعة عشر ~ وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر ~ {

 

نعم.. ما هي إلا ذكرى للبشر، وإنها ليست لبيان عدد جنود الله عز وجل.

 

القرآن العظيم يبارك هذا اللقاء بين المسيحية والإسلام

إن عدد حروف بسم الله الرحمن الرحيم تسعة عشر. وإن الضمير في قوله سبحانه: } عليها تسعة عشر ~ { 30/ المدثر يعود على النار. وعليه لا غرابة في أن يكون اسم الله الرحمن الرحيم على واجهة النار لأنها ذات بال، وكل أنر ذي بال لا بد وأن يبدأ بهذا الاسم الأكبر كما جاء في الحديث الشريف أولاً. كما يظهر ثانياً من قوله سبحانه: } وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة { 30/ المدثر

 

إنه إذا كان أصحاب النار ملائكة فإنه لا يستغرب ذكر باسم الله الرحمن الرحيم عليها لأنهم لا يفترون عن ذكر الله سبحانه والتسبيح بحمده.

 

وإن العدد تسعة عشر لم يكن لبيان عدد الملائكة الكرام الذين هم جنود الله الذين يعلم عددهم وحده سبحانه، كما جاء قبل آخر الآية الكريمة: } وما يعلم جنود ربك إلا هو {   31/ المدثر ، وجاء في آخرها: } وما هي إلا ذكرى للبشر { ~   31/ المدثر

 

كما يظهر أن في ختام الآية تحديدا ً بهذا المعنى ألا وهو (ذكرى للبشر) ولعل في هذه الذكرى – الحكمة المقصودة، والضالة المنشودة الجامعة بين المسلمين والمسيحيين، حيث آن الآية كلها تكــاد تنحصــــــــــــر في هذا المعنى، وذلك في قوله جل ّ شأنه: } ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون {   31/ المدثر.

 

نعم.. إن الأمر يحتاج إلى تمهيد وتعاون مع أصحاب الحكمة والنفوذ في تحقيق مثل هذا اللقاء الكبير بين أمتين كبيرتين يقرب عدد أفرادها من نصف سكان العالم، وعلى خير ما تم عليه اللقاء في التثليث بين الرومان والمسيحية – ألا وهو اسم الله الأكبر – بسم الله الرحمن الرحيم.

 

ولا سيما وأن تعداد الأسماء والصفات لله الواحد الأحد سبحانه وارد في الديانتين ومقبول منهما، وأن تعدد الآلهة أو تجزئة الإله الواحد مرفوض من الديانتين كذلك كما تقدم.

 

كذلك لا يمكن اعتبار رسالة السيد للمسيح العالمية أنها لمجرد الفداء، وأن السيد المسيح كبشها.

 

لقد كان الحياء يغلب علي عندما أقول إن رسالة السيد المسيح الحاضرة تعني أن السيد المسيح هو مجرد كبش فداء. وقد تحدثت للشيخ حامد خليفة – إمام المسجد الكبير في لندن عن شعوري بالخجل حول هذا الوصف المزري بنظري، فأخرج لي من مكتبه منشوراً مسيحياً يصور السيد المسيح بكبش رابض وبقربه سكين.. قائلاً لي هذا ما يعتقده المسيحيون أنفسهم. وعند ذلك فهمت أنني لم أتجاوز الواقع فيما قلته حول ذلك. وإني أضع صورة هذا المنشور وما كتبوا تحته من تعليق:

” قصة آدم ” في القرآن الكريم

إن قصة آدم ليست كما يتصورها كثير من الناس.. بأنها مجرد معصية، وأن هذه المعصية خالدة، وأن خلودها يعم جميع ذرية آدم حتى مجيء السيد المسيح رسول الله وكلمته، أو أن رسالته عليه السلام تنحصر في أن يكون كبش فداء لهذه الخطيئة الخالدة.. أو أنه الله وقد تجسد في صورة إنسان وتعذب وصاب ليكفر عن خطيئة ارتكبت في حقه سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بجلال قدسه، أو أنه سبحانه شريك لآدم في الخطيئة وأن الخلاص مرفوض على البشرية، وأن الغفران لا يتحقق بغير الإيمان في المسيح دون الاشتراط بأن يشفع هذا الإيمان بعمل صالح يصدقه، مع تحاشي الأعمال السيئة والتطهر منها بالاستغفار. على أن القرآن العظيم يضع قاعدة تشمل المسلمين وجميع أهل الكتاب قبلهم كما جاء في الآية 131 من سورة النساء وقوله سبحانه: } ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتــــاب من يعمـــــل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيرا ~ {   123/ النساء

إن قصة آدم مدرسة ربانية قائمة على قواعد علمية وتعاليم رحمانية تشتمل على جميع ما يتعرض له أبونا آدم وأمنا حواء وذريتهما من بعدهما ذكورا ًوإناثاً – من مشاكل تمر عليهم وطرق حلها، وعلى حقوق وأنظمة وعير ذلك.. ليخلصوا العيادة لله الواحد الأحد سبحانه، وليقوموا بعمارة هذه الأرض الطيبة، مؤمنين بالله لا يشركون به شيئاً عاملين للصالحات ليعيد الله سبحانه الناجح في فترة حياته الامتحانية على الأرض إلى ما يستحقه من الثواب في جنات النعيم مقيم كجائزة نجاح، وهبة فلاح جدير بها المستحق لها. والعكس صحيح أيضاً بالنسبة للفاشل في الامتحان الذي تقوم عليه حجة الله البالغة وحكمته الدامغة، علما ُ بأن قطعة لخشب التي لا تصلح لأن تكون قبقاباً أو وتداً ينتفع به.. تظل عاثورة مؤذية في الطريق .. فإن الحكم يصدر عليها منا بالإحراق في النار، ولله سبحانه المثل العلى في السماوات والأرض، وقد أعذر من أنذر، والله سبحانه يعفو عن كثير. وإليك أيها القارئ اللبيب ما يظهر لي في هذه القصة من معان قيمة، وحكم بالغة، وبيان مفيد في آيات كتاب الله الذي لا تنقضي عجائبه ألا وهو القرآن العظيم.. خاتم كتب الله المنزلة على أنبيائه المرسلة عليهم جميعاً صلاة الله وسلامه.

 

الملأ الأعلى قبل خلق آدم

إن القواعد العلمية واحدة في الأرض وفي السماء، وإن من المعروف أنه إذا حصل تقارب بين جسمين أحدهما إيجاب تام والآخر سالب تام.. فلا بد وأن يحدث تفريغ متبادل من أحد هذين الجسمين إلى الجسم الآخر بنسبة كبر حجم كل جسم منهما أو صغره.. ولعله في مثل هذا التفريغ يتكون تلقائياً جانب ثالث حيادي بحكم قاعدة السلب والإيجاب والحياد وبهذه الطريقة يمكن بقاء الجسيمين المتنافرين في حالة تقارب لأن الفاصل الحيادي يكون قاسماً مشتركاً نابعاً من الجسمين معاً ولولاه لما التقيا ولعل هذا ما حصل فعلاً بين الملائكة الإيجابيين وبين إبليس السلبي

 

وبما أن جانب الملائكة الكرام أكبر.. كان تأثير تفريغه على إبليس أكثر.. مما جعل إبليس يتأثر بهم ويعبد الله فترة من الزمن. أما الملائكة فهم جنود الله وعباده المكرمون الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون، فقد كان تأثرهم بالجانب السلبي قليلاً نسبة لصغره أمام كبر مجموعتهم. وإن هذا التأثير وإن كان ضئيلاً إلا أنه لا يجوز من لجنود الله الكرام، بل عليهم أن يكونوا جنداً متجاوبين مع القيادة الرباني بكل ما في الايجاب من معنى ينفذون أوامره سبحانه دون أدنى شائبة تشوب إيجابيتهم التامة وجنديتهم المطيعة الطاعة المطلقة.

 

السلب والإيجاب والحياد قاعدة كونية تشمل الخلق كله:

وكان قضاء الله وقدره سبحانه وبعلمه منذ الأزل – إتمام القاعدة الثلاثية لمخلوق ثالث مستقل يشكل الجانب الحيادي – ليفصل بين جانبي السلب والإيجاب – لتبقى إيجابية الملائكة إيجابية تامة، وتبقى سلبية الشيطان سلبية تامة.

وكان هذا المخلوق هو آدم عليه السلام. وإن الله سبحانه لم بعاتب الملائكة بغير قوله: ( إني أعلم ما لا تعلمون ). والظاهر من ذلك من أن الله سبحانه يعلم غيرة الملائكة عليه جل ّ جلاله، كما يعلم سبحانه القدر الضئيل الذي دخل على الملائكة من تأثير سلبية ذلك المخلوق السلبي.

 

وإن هذه الفترة العابرة لملائكة الله الكرام التي سوف لا تمر ثانية بعد إتمام خلق ذلك الحيادي الفاصل بين السلب والإيجاب.. الذي هو آدم عليه السلام، قد جعلت الملائكة قريبي الشبه بإنسان المستقبل إلى حد ما – وذلك عندما يجاوره الشيطان وأتباعه على الأرض.

 

وعليه فإنه من الممكن أن يكون في هذه الفترة العابرة درس وتجربة لإنسان المستقبل الوسط، يتخذ منها ما ينبغي على القائد نحو جنده، وما ينبغي على الجند نحو قائد هم في التشاور، ثم العزم بعد الاطلاع على مختلف الآراء بدليل، أن الله سبحانه وتعالى أخبرهم بأنه سيجعل في الأرض خليفة. ولعل الملائكة لم يرق لهم ذلك لأمرين، أحدهما الغيرة على الله من خلق لا يقدره سبحانه حق قدره، لأنه جل َ وعلى جدير بخلق يسبح بحمده ويقدس له شأن الملائكة الكرام. والثاني هو غيرتهم على هذه الأرض الطيبة من أن يكون فيها خلق يفسد فيها ويسفك الدماء. ولعل هذا الخلف المكون من آدم وزوجه وذريته – خلف لسلف قبلهم أفسد في الأرض وسفك الدماء، وإن المفروض على الجندي هو السمع والطاعة لقائده، كما أن المطلوب من كل قائد أن يستأنس بمشورة أولى الأحلام والنهي من قومه ، ولله المثل الأعلى وهذا ما يتبين من قوله سبحانه: } وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون ~ { 30 / البقرة

 

ويتبين من قوله سبحانه بعد إطلاع الملائكة بأنه سيخلق آدم.. ومعرفة رأي الملائكة في ذلك، تعليم للقائد من بني آدم أن يستعرض آراء جنده، وأن عليه بعد هذا الاستعراض أن يستخلص الرأي السديد والحكم الرشيد، ويعزم ويتوكل على الله. ولله المثل الأعلى مصداقاً لقوله سبحانه مخاطبا ً رسوله: } وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله {   159/ آل عمران

 

وقد أتم الله سبحانه خلق آدم كفاصل حيادي بين الإيجاب والسلب. وإن الفراغ في الفاصل الحيادي ( آدم ) قد أخذ ما عند الملائكة من سلبيات دخيلة عليهم من الشيطان، كما استرد ما عند الشيطان من إيجابيات دخلت عليه من الملائكة الكرام، فأصبحت إيجابية الملائكة تامة، وسلبية الشيطان تامة كذلك. فكان حياد آدم إيجابياً لزيادة ما امتصه من إيجابيات في الشيطان تزيد عن سلبيات ضئيلة امتصها من الملائكة الكرام بحكم قاعدة السلب والإيجاب والحياد. وإن الحياد الإيجابي في الإنسان هو فطرة الله التي فطر الناس عليها.

 

أهمية العلم وتفضيل الإنسان به على الملائكة

كان العلم أول نعمة ينعم الله بها على آدم لأنه سبحانه علمه الأسماء كلها بعد نعمة الخلق، وأن الأسماء كلها تشتمل على الأسماء العلمية وما ينتج عنها من تجارب نتيجة الأبحاث الذهنية والتجارب العملية، ثم عرضهم على الملائكة طالباً منهم محاكاة آدم في فكره واستيعابه للعلوم القابلة للزيادة، إن كان ذلك في مقدورهم، فكان جواب الملائكة للمولى: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا. فطلب سبحانه من آدم أن يحل للملائكة ما عجزوا عن معرفته – لأتهم مستودعات يستودع الله فيها ما يشاء من علمه سبحانه، لا يزيدون عليها ولا ينقصون شأن الجندي الذي لا يتخطى التعليمات المحددة له من قائده.

 

وكان من حق الله سبحانه عل الملأ الأعلى تقديم العلم والمواهب التي فضل بها آدم عليهم، فطلب منهم سبحانه أن يسجدوا لآدم إجلالاً للعلم واعترافاً بالخطأ.. فأطاع الملائكة دون تردد لأن إيجابيتهم أصبحت تامة وعصى الشيطان لأن سلبيته أمست تامة وذلك بعد خلق هذا الفاصل الحيادي ويتبن ذلك كله من قوله سبحانه في الآيات 31- 34/ من سورة البقرة: } وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ~ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ~ قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ~ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين~ {

 

ولعل في هذا الدرس تعليماً للنخبة في القمة من كل أمة بأن تتعاون منسجمة في الحفاظ على الصف كي لا ينتأ أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد، وأنه لا كرامة إلا كرامة التقوى والتسابق في الخيرات. وإن كل مشاغب حسود لا فضل له يدعيه إلا اعتزازه بعنصريته.. فإنه لا جزاء لمثل هذا إلا الطرد من المجموعة وذلك لسلامتها، كي لا يفرغ سلبيته في سليم فيعديه ثم ينشر عدواه بين الأصحاء فتتحول إلى مرضى القلوب، وشياطين تفرقه، لأن شياطين الإنس أشد خطراً وأنكى ضرراً من شياطين الجن لأنها لا تقصر ولا تخنس. أما شياطين الجن فتخنس وتقصر عند ذكر الرحمن مصداقاً لقوله سبحانه: } إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ~ وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون   ~ { 201- 202/ الأعراف

 

وإذا كانت شياطين الإنس لا تقصر فإن التعاون بين شياطين الجن والإنس وارد. وكثيراً ما يكون الشيطان الإنسي واسطة للشيطان الجني المتآخي معه في الشرور.. فتتضاعف شرور الشيطان الإنسي، وكلمة إخوانهم في الآية الكريمة تعني فيما يظهر إخوانهم من شياطين الإنس، أما شياطين الجن فتقصر وتخنس عند الذكر، وتقوى عند الغفلة مصداقاً لقوله سبحانه:

} ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين ~ { 36/ الزخرف

 

على أن الباطل الذي يتآخى عليه الشيطانان معاً مهما أزداد شره.. فإنه زهوق مصداقاً لقوله جل شأنه: } وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ~ { 81/ الإسراء

 

وقد طرد إبليس من الملأ الأعلى عندما عصى الله متعالياً على آدم بعنصره كما أخبرنا عن ذلك سبحانه حكاية عن إبليس: } قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ~ { 12/ الأعراف وكما جاء في الآية 61 من سورة الإسراء: } وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال آسجد لمن خلقت طيناً ~ {

 

على أن الطريقة السليمة بين القيادة والجندية.. هو ما أخبرنا المولى به في كتابه الكريم وقرآنه العظيم حكاية عن بلقيس ملكة سبأ عندما ألقى إليها كتاب كريم من نبي الله سليمان يحمله طائر صغير، في الآيات 29/32 من سورة النمل: } قالت يأيها الملأ إني ألقي كتاب كريم ~ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ~ ألا تعلو علي وأتوني مسلمين ~ قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة ً أمراً حتى تشهدون ~ قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين ~ {    

 

فاستعملت مواهبها وعزمت وتوكلت على الله ثم تصرفت تصرفاً حكيماً أدى بها آخر المطاف إلى ما اخبرنا به سبحانه في الآية 44 من نفس السورة: } قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ~ {

 

ولعله بمثل هذه المعاني في القيادة الحكيمة يخاطب المولى سبحانه رسوله الكريم في الآية 159 من سورة آل عمران: } فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين {

 

وأن في التشاور استئناساً بالآراء.. ثم بعد ذلك يأتي استحسان الرأي المناسب، فالعزم فالتوكل على الله في التنفيذ السليم. وان في استشارة بلقيس ملكة سبأ – ارتباطاً قوياً بين القاعدة والأمة، ومثالا ُ حياً للقمة الهرمية السليمة القائمة على المنطق والفلاح والصلاح في الراعي والرعية

 

ثم بعد تفوق آدم العلمي في الملأ الأعلى أسكنه الله سبحانه جنة لم يتعب في زراعتها، ومنازل لم ينصب ببنائها، وزروعاً لم   يتكبد مؤونة زراعتها، وأمواهاً لم يصخب بجلبها وسكبها، ومناخاً مريحا كذلك، وخلق منه زوجاً له وجعل بينهما مودة ورحمة ، أي أنه سبحانه يسر له كل ما يحتاج إليه أو يفكر فيه كي لا يجعل عليه وزوجه منفذا ً للشيطان – عدوهما المتربص بهما.

 

وقد سبق كل ّ ذلك العلم الذي علمه الله لآدم وفضله به على الملأ الأعلى وأمرهم سبحانه بالسجود له إجلالاً لهذا العلم ورضي به كما تقدم. وأصبح آدم سيداً في الجنة يأكل وزوجه من ثمارها رغداً حيث شاءا، ويتمتعان بعليل نسيمها وبهجة مناظرها، ولم يكن لديهما نقطة ضعف أو موطن حرمان يدخل منها عدوهما إبليس. وقد أخبرهما الله أن هذا العدو اللدود، والحاسد الحقود يحاول إخراجهما من هذه الجنة وحذرهما جل ّ جلاله من مكائده، وأن هذه المكائد مظلمة لا يمحوها إلا نور الإيمان وذكر الرحمن كسنة كونية. أي أن شياطين الجن والإنس تمثل الظلام .. ولا يطرد الظلام إلا النور، وبفقد النور يحل الظلام تلقائياً. وكذلك الحال بين كل متضادين، شأن الحق يزهق الباطل، والعلم يمحو الجهل، وكذلك الليل والنهار .. إذ يبقى الليل حتى يطلع الفجر وتشرق الشمس، ولو لم تطلع الشمس لكان الليل سرمدياً لا قدّر الله. كما يظهر مما تقدم أن العلم هو أولى وأهم من الطعام والشراب لأنه غاية والطعام والشراب وسيلة. وأن تفضيل آدم في الملأ الأعلى على الملائكة الكرام كان في العلم كما تقدم.

 

ويتبين ذلك من قوله سبحانه وتعالى في الآيات 35-38 من سورة البقرة: } وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ~ فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوٌ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ~ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ~ قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتيكم منى هدى ً فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون {