مؤتمر ” نيقيا ” ( تركيا – آسيا الصغرى )
عقد هذا المؤتمر في القرن الرابع الميلادي وعلى وجه التحديد في سنة 325 في مدينة ” نيقيا ” وكان أعضاء المؤتمر ينقسمون إلى ثلاث مجموعات: يمين.. ويسار.. ووسط (وان ما كان يطلق من أسماء اليمين واليسار والوسط كان نقلا عن الكتاب أي أن ذلك كان بالنسبة لما يرومه قسطنطين الأكبر من العمل للادماج المسيحي الروماني) . فكانت مجموعة اليمين بالنسبة لقرارات المؤتمر مكونة من حوالي ثلاثين عضواً يرأسها الكسندر رئيس كنيسة الإسكندرية.
وكانت مجموعة اليسار المعارضة لقرارات المؤتمر وعدد أعضائها حوالي خمسة عشر عضواً يرأسها ازبيوس من نيكوميديا وكلهم من أتباع أريوس المتمسكين بتعاليمه. أما المجموعة الثالثة الوسط وهي الأغلبية والتي تسمى أحيانا بالمحافظين فكان يرأسها ازبيوس من شيزاريا، وهم من الأريسيين المعتدلين أو من أنصاف الأريسيين.
وقد كان اثناسيوس وهو من أهم جماعة من اليمين منصباً وبلاغة شماساً في الكنيسة في ذلك الوقت. ولم يكن له الحق بالتصويت، إلا ّ أن بلاغته الخطابية ولقاءه مع القيصر في الفكرة، وكذا تأثيره الكبير على الدهماء جعلت منه الرجل الأول في انتصار جماعة اليمين بالنسبة لقرارات المؤتمر بدون منازع ، ويمكن القول بأن له الدور الأول فيما توصل إليه المؤتمر من قرارات.
والتي جاءت فيها البنود التالية:-
- إننا نؤمن بإله واحد هو الرب القدير
- خالق جميع الأشياء سواء المنظور منها وغير المنظور
- ونؤمن برب واحد هو يسوع المسيح
- ابن الله
- الذي ولد كولد وحيد للأب أي من نفس جوهره
- رب الربوبية
- نور الأنوار
- الإله الحق للألوهية الحقة
- الذي ولد ولم يصنع
- من نفس جوهر الأب
- ومن خلاله خلقت جميع الأشياء في كل من السماوات والأرض
- والذي من أجلنا نحن البشر ومن اجل خلاصنا
- نزل
- ثم تجسد
- في صورة إنسان
- وتعذب
- ونهض ثانية في اليوم الثالث
- وصعد إلى السماء
- وسوف يعود ثانية
- ليحكم بين الأحياء والأموات
- ونحن نؤمن بالروح القدس
ولقد تقدم أن الإيمان بالله والمسيح والروح القدس كان كلاً على حدة قبل مؤتمر ” نيقيا ” ولم يكن الجمع بينهم بالتثليث إلا بعد المؤتمر . ولقد كان التثليث عند الرومان يتكون من الله والعقل والروح، وكان من الممكن الاكتفاء بألوهية المسيح طالما أعطى هذه الصفات التي لا تصح إلا للإله الحق سبحانه . إلا أن الإيمان بالله كان فيما يظهر لأمرين: الأول أن الإيمان بالله موجود قبل المسيح وبعده لا سيما في التوراة، والثاني للمماثلة مع التثليث الروماني، وقد جاء التركيز على السيد المسيح ليحل محل العقل عند الرومان، وجاء في آخر قرارات المؤتمر تأييد الإيمان بالروح القدس ليحل محل الروح عند الرومان أيضاً.
كما جاء في المؤتمر تساوي الآلهة الثلاثة: الله والابن والروح القدس،ومع هذا التساوي التام، فإن هؤلاء الآلهة الكاملة الثلاثة يعتبرونهم إلهاً واحداً كما تقدم.
وكان التثليث عند الرومان تثليثاً وثنياً لم يوحد بإله واحد. على أنه لا مناص للمسيحية من مخالفة الرومان في مثل ذلك أو أن يكفروا بالتوراة التي تقول بوحدانية الله، وقد كان التثليث مجاراة للوثنية الرومانية حتى ولو كان غير مقبول منطقياً أو رياضياً. كما كان التثليث بدعة في رسالات الله من آدم إلى محمد عليهم جميعاً صلاة الله وسلامه.
ولم يكن آريوس المتمسك في الإيمان بالله ووحدانيته الحقة رغم المؤثرات الثلاثة: سلطة الإمبراطور، وغوغائية الدهماء، وبلاغة اثناسيوس ليقبل ما جاء في مؤتمر ” نيقيا ” من التركيز على السيد المسيح بأمور لا تصح إلا لله وحده، ولا ليقبل الخلط واللبس فيما بين الله والمسيح وذلك بوصف يجعل منه الرب الواحد والابن الأوحد الذي ولد له من نفس جوهره، وأنه ولد ولم يخلق، وهو رب الربوبية والإله الحق للألوهية الحقة، وأنه تجسد في صورة إنسان بعد نزوله إلى الأرض كما لم يكن ليقبل وصف الله سبحانه بصفات لا تصل إلى ما وصف به السيد المسيح، وربما تتلاشى فيها، ويؤيده في ذلك جماعته المعارضة لقرارات المؤتمر برئاسة ازبيوس من نيكوميديا لأنها تمثل فكرة آريوس تماماً التي تقول أن الابن والروح القدس مخلوقان للأب، وأنه لا يمكن أن يكون المسيح من نفس جوهر الله ، ولا يمكن أن يكون مساوياً له في القدم أو الصفات أو الجوهر. وقد أجمع على رفض قرارات المؤتمر جل الاريسيين إن لم يكونوا كلهم.
ولعل تسليم آريوس وأتباعه ببنوة المسيح لله كان مجازاً كما جاء في الحديث الشريف: (الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله).
وتعتبر جماعة ازبيوس من شيرازيا من المحافظين المعتدلين الوسط لآن معارضتهم كانت أكثر هدوءاً من معارضة آريوس وأتباعه وكانوا متعاطفين مع آريوس بعدم إقرارهم لوحدة الجوهر بين الله والمسيح، كما كانوا غير راضين تماماً عن كل ما تم في المؤتمر معتقدين أنهم على حق، وأن ما جاء في المؤتمر مجرد اتفاق جديد يقصد به الجمع بين الفرق المسيحية من جهة وبين المسيحية ككل والرومان من جهة أخرى ، أو أن يكون المقصود منها اخذ المسيحية إلى جانب العقيدة الرومانية في تثليث مماثل للتثليث الروماني مع إظهار العكس،وذلك بإقرار المسيحية ديناً رسمياً للدولة الرومانية.
وطالما تحدثنا عن التثليث فلا يفوتنا أن نشير إلى الثالوث المقدس عند قدماء المصريين، فثالوث آمون يتكون من: إيزيس وأوزوريس وحوريس، وثالوث رع يتكون من: رع وخنسو ونوفرتم، والثالوث المقدس في الوثنية الهندية القديمة: براهما وفشنو وسيفا.
وأصبح اسم الروم يعني المسيحيين، وقوانين الروم الوضعية هي قوانين المسيحية لرومانية أيضاً وإن الدفاع عن الروم يعني الدفاع عن المسيحية، وإن تعاون المسلمين مع الروم معناه تعاون المسلمين مع المسيحيين.
وأمست طقوس دويلة الفاتيكان ولا تزال طقوساً رومانية كذلك، ولم يتدخل رجال الكهنوت في الشئون العامة اللهم إلا في الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق وتحديد النسل، وما يتعلق بأعمال السحر والسحرة كالاتهام بالسحر ومقاومته، وتعميد الأطفال.. ويكتفى بشهادة التعميد لاعتبار الفرد مسيحياً. وقد تدخلوا في النظريات العلمية الحديثة كما حصل في محاكم التفتيش.
وأما ما عدا ذلك فمرجعه إلى القوانين الوضعية ، أي أن مسئولية الحقوق من حلال أو حرام بين الناس ليست أمام كتب الله كالتوراة مثلاً، بل أمام القانون، وكل محام وشطارته في المواد القانونية. أما الذمة والضمير فمرجعها خلق الفرد وسلامة طويته، والعكس صحيح أيضاً، وذلك كغيرهم من غالبية البشر كما ذكرهم الله سبحانه في كتابه الكريم: } ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤدوه إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدوه إليك إلا ما دمت عليه قائما { 75/ آل عمران.
آريوس ومؤتمر ” صور “
ونعود فنقول إن طرد آريوس واثنين من أتباعه من الكنيسة – لامتناعهم عن التوقيع على قرارات مؤتمر ” نيقيا ” – لم يحل دون مواصلة آريوس لرسالته ودعوته ضد قرارات مؤتمر ” نيقيا ” شأن كل صاحب رسالة.
فإنه لا يستسلم للفشل لمجرد هزيمته أما الدهماء – التي تكون في الغالب مدفوعة بالعواطف وحب الظهور والانسياق وراء بهرجة الأقوال وهتافات الجماهير لتكون شيئاً مذكوراً في مجتمعات الدهماء والمعارضة. وإن صاحب الرسالة الحقة لا يتأخر عن رسالته مهما خالفه المخالفون أو لامه اللائمون حتى ينصره الله أو يهلك دونها. وقد أخذ آريوس وأتباعه يعملون وينادون بمخالفة قرارات مؤتمر ” نيقيا ” والتمسك بعدم المماثلة في الجوهر والقدم فيما بين الله والمسيح، وذلك بالطرق الإيجابية المسئولة بحيث يغتنمون الفرص والمناسبات ويختارون الدعاة ولقد كان لهم تأثيراً كبيراً مما جعل المؤمنين بفكرتهم يتحمسون ويجتمعون في السنة التالية بمؤتمر آخر في مدينة ” صور” ( من مدن الجنوب اللبناني ) وهي معروفة بهذا الاسم حتى اليوم. وكانوا متحمسين لعقيدة التوحيد مهما كان الأمر، إلا ّ أن أتباع الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول كانوا مستعدين لهذا المؤتمر بأكثر من الأول، وتصدى لهم اثناسيوس – بطل قرارات مؤتمر ” نيقيا ” لا سيما وانه قد أصبح رئيساً لكنيسة الإسكندرية بعد وفاة الكسندر رئيسها الأول سنة 326.
وقد فشل التجمع الإيجابي في مؤتمر “صور” أيضاً تجاه القوى التي يتمتع بها أثناسيوس – الذي لم تكن رئاسته للكنيسة بالانتخاب العادي المعروف، بل كانت بتصويت الدهماء فقط، بالإضافة إلى توصية من الكسندر قبل وفاته – وقد كان أثناسيوس علاوة على المركز الجديد كرئيس للكنيسة.. يتمتع بالموافقة الضمنية على فكرته الموائمة لفكرة الإمبراطور، كما كان يتمتع بهتافات الدهماء وتأييدهم مثلما كان الأمر في مؤتمر ” نيقيا ” . فجاء مؤتمر ” صور ” مخيبا لآمال آريوس وجماعته، وتأكد بذلك لاثناسيوس والقيصر الأكبر ما أرادا من إيمان المسيحيين بتثليث مماثل لتثليث الرومان.
الأناجيل المعتمدة
لقد كانت الأناجيل المعتمدة بعد مؤتمر ” نيقيا ” و” صور ” أربعة أناجيل: متى، ومرقص، ولوقا ، ويوحنا، ولم تكن هذه الأناجيل مكتوبة باللغة الآرامية – لغة السيد المسيح – ولا باللغة السريانية المنبثقة عنها في القرن الأول الميلادي، كذلك لم تكن بالعبرية .. لغة بني إسرائيل، بل كانت جميعها مكتوبة باللغة اليونانية. ولم يعرف شيء عن الأصول التي ترجمت عنها، كما لم تعرف أسماء المترجمين لمعرفة ما إذا كانوا محل ثقة في النقل.. أو إذا كانت لهم معرفة تامة باللغتين: اللغة الأصلية، واللغة اليونانية المترجم إليها الأناجيل الأربعة.
أما الأناجيل الأخرى – ومن ضمنها الأناجيل الشرقية – فتكاد تكون غير معترف بها ولا سيما من الأكثرية الموالية لآثناسيوس – إن لم يكن قد أعدم أكثرها. ولعل أثناسيوس نفسه كان يوناني الأصل كما يوحي بذلك اسمه الذي قد يكون مشتقاً من كلمة ( أثينا ) عاصمة اليونان.
حظوة ازبيوس من شيرازيا عند الإمبراطور
على أن ازبيوس من شيزاريا وجماعته من الاريسيين وأنصاف الاريسيين أخذوا يدافعون عن المذهب الآريسي ويعترضون على قرارات ” نيقيا ” بشيء من الهدوء والتروي والمنطق والتدليل الأمر الذي جعل لازبيوس هذا حظوة كبيرة لدي الإمبراطور – مما خوله أن يطلب إعادة آريوس ورفاقه إلى الكنيسة بعد أن عزلتهم.. إلا ّ أن أثناسيوس كان يعارض ذلك دائماً، ورفض عودة آريوس أكثر من ثلاث مرات متحدياً بذلك رغبة الإمبراطور.. مما حدا بالإمبراطور إلى نفي أثناسيوس نفسه خارج البلاد.وقد حال موت آريوس سنة 334 دون عودته للكنيسة.
و قد نهض جماعة آريوس بعد وفاته وصار لهم حظوة كبيرة ومكانة مرموقة في البلاط الإمبراطوري ولكن أثناسيوس هو أثناسيوس، فلقد ظل مختبئاً في مصر فترة طويلة يعمل لمبادئه في سرية وهدوء، ينظر للأحداث عن كثب وينتظر الوقت المناسب للظهور وقد ظل على قيد الحياة بعد وفاة آريوس بفترة كافية لأن يواصل جهوده وتعصبه لقرارات مؤتمر ” نيقيا ” ضد جماعة آريوس الذي أصبح لهم شأن كبير زهاء عشرين عاماً بزعامة أزبيوس من شيزاريا في ظل الإمبراطور قسطنطيوس.
وقد أجمع المسيحيون على رأي أزبيوس من شيزاريا غير المتشدد في الوحدانية باعتقاد أن المسيح ليس من جوهر الأب، ولكنه مشابه له في الصفات فقط. كما أجمعوا على نبذ جميع قرارات “نيقيا ” إلا أن أتباع أثناسيوس قد نشطوا بعد وفاته سنة 373 كما سبق أن نشط الآريسيون بعد وفاة آريوس سنة 334.
وقد ظل الأريسيون في خلاف وصراع كبيرين مع أتباع أثناسيوس زهاء نصف قرن حتى قبيل مؤتمر القسطنطينية عام 381 – وكانت المسيحية في زمن القيصر قسطنطيوس تتلخص في جماعتين ظاهرتين: جماعة تنادي بوحدة الجوهر بين الله والمسيح وهي المعبر عنها باللاتينية: (HOMOIUSION)، والثانية لا تؤمن بوحدة الجوهر بل تنادي بوجود الشبه فقط بين الله والمسيح وهي المعبر عنها بالكلمة اللاتينية: (HOMOIUS). على أن غالبية الأريسيين المتسامحين وكانوا من أتباع أزبيوس، والأقلية المعارضة من أتباع أيتيوس، أما أصحاب التوحيد الخالص من جماعة آريوس، فكانت لا تقر أن المسيح من نفس جوهر الأب، ولا تؤمن بتشابه بينهما في الجوهر، وكان يطلق عليها باللاتينية كلمة: (ANOMOIOS).
وقد انقسم الأريسيون وتفرقوا إلى جماعات وفرق.. كل جماعة تعمل بطريقتها على محاربة قرارات مؤتمر ” نيقيا ” ، وبقوا على الرغم من ضعفهم وتفرقهم موجودين في أوروبا والشرق، حتى نهاية القرن السادس ومطلع القرن السابع، وذلك بعد انتصار جماعة أثناسيوس في العودة إلى الإيمان بقرارات مؤتمر ” نيقيا “، وذلك بعد مؤتمر القسطنطينية عام 381 .