Alqenaei

الرئيسية » المكتبة » العلم بين القديم والجديد – في رحاب القرآن الكريم » العلم بين القديم والجديد – في رحاب القرآن الكريم -الجزء الرابع

العلم بين القديم والجديد – في رحاب القرآن الكريم -الجزء الرابع

بسم الله الرحمن الرحيم

حوار بين الرأس والبنكرياس

 

البنكرياس: سيدي.. سيدي.. سيدي.. الرأس

الرأس: هاه.. ماذا؟ أتخاطبينني أنا؟

البنكرياس: نعم يا سيدي.. مالك هكذا هل هناك ما يقلقك ويشغل بالك؟

الرأس: إيه إنها الحضارة التي وصل إليها الإنسان.

البنكرياس: الحضارة؟ وماذا في الحضارة يا سيدي؟

الرأس: لقد تغير الزمان يا عزيزتي.. واعتمد الكثير من الناس على وسائل النقل الآلية حتى في تنقلاتهم القريبة، التي لا تتحمل أكثر من خطوات محدودة، ولا تستغرق أكثر من دقائق معدودة، كما اعتمدوا على المصاعد والسلالم الكهربائية، حتى في الأدوار القليلة الارتفاع والتي لا تكلف كبير جهد، وكثير عناء، فغلب علبهم الكسل وحب الراحة، والبعد عن الحركة والرياضة، إلا ما كان بحكم عمل الإنسان أو هوايته.

البنكرياس: عفواً سيدي إن قاطعتك.. فما الذي يهمك في هذا الموضوع؟ ثم أليس في وسائل الحضارة الحديثة راحة للجسم كله؟

الرأس: لا يا عزيزتي.. ليس الأمر كما يبدو لك في ظاهره، فكثرة الراحة الجسمية، والبعد عن النشاط والحركة والرياضة يؤدي إلى ضعف الطاقة الكهربائية وخاصة مع كثرة الأطعمة الدسمة كماً ونوعاً لا سيما وأنها غالباً ما تؤدي إلى السمنة المعطلة للحركة – علماً بأن أية حركة مهما قلت فإنها تولد طاقة كهربائية فيها غذاء رئيسي لي، ولا يمكن للإنسان الاستغناء عنها علماً بأن هذه الطاقة المفيدة – تكون على حساب الزائد من الطاقة الغذائية المسببة للسمنة المكسلة عن العمل والمورثة للسقم، على أن الجسم لا يخلو مما يشبه بطارية السيارة مثلاً في اختزان الطاقة الكهربائية، تشحنه الحركة، وينقصه الاستهلاك.

البنكرياس: ألهذا الحد تبلغ خطورة الكسل يا سيدي؟

الرأس: نعم يا عزيزتي.. ولا سيما أنه غالباً ما يملأ الكسلان فراغه ( بالرمرمة ) المتواصلة، ومما يزيد الطين بلة في وقتنا هذا كثرة انشغال البال فيما لا طائل تحته، وكثيراً ما يكون ذلك مصحوباً بقلة الإيمان، الأمر الذي يؤدي إلى القلق والأرق، علماً بأن ثلاثية القلق والأرق والسمنة هي الأم لأمراض عصرنا – عصر الحضارة والتقدم.

البنكرياس: ولكن سيدي.. ما علاقة ذلك بما تتحدث فيه.

الرأس: إن كثرة الأرق والقلق وانشغال البال، تجعل المرء يستهلك مخزونه من الطاقة الكهربائية دون تعويض لهذه الطاقة، حيث إن ذلك غالباً ما يحدث والمرء مستلق على فراشه لا يؤدي أية حركة تقابل ما يستفيد من الطاقة، اللهم إلا من قدر ضئيل نسبياً ينتج عن حركة بعض الأجهزة التلقائية الأداء في الجسم، كالجهاز الهضمي والجهاز التنفسي، والدورة الدموية، وقد علمت من قبل أن الحركة هي التي تعوض ما يفقد من مخزون الطاقة الكهربائية، وهذا الأمر خطير يا عزيزتي.. لأن توالي الأرق والسهر – كثيراً ما يوهم الإنسان أنه أصيب بمرض نفسي، أو انهيار عصبي، مما يلزمه في كثير من الأحيان إلى مراجعة الأطباء النفسيين – الذين لم يثبتوا وجودهم أمام مشاكل الحضارة وسلبياتها – أو يلجئه إلى تعاطي المسكرات والمخدرات، هروباً من واقعه المؤلم، المليء بالهموم والأوهام ، والحيرة والفراغ – شأنه في ذلك شأن من يصب الزيت على النار، ليزيدها تأججاً واشتعالاً، وقد تصل به النهاية إلى الموت عليل الأمراض، وربما استعجل النهاية بإقدامه على الانتحار آخر المطاف نتيجة لليأس والقنوط، بعد أن أعياه طول العلاج، واستولى عليه الانهيار.

البنكرياس: وفي هذه المواقف يا سيدي.. ألا تحاول نصح الإنسان لتجنب الوقوع في مثل هذه الأمور.

الرأس: طبعاً يا عزيزتي.. فهذا من أهم واجباتي نحو الإنسان، إلا أنه وللأسف، لم يفهم إشارتي الخفيفة. مما اضطرني إلى الزيادة فلم يفهم أيضاً. والواقع أني لم آل جهداً، أو أدخر وسعاً في جعله يقترب من التشخيص السليم ويهتدي إلى العلاج الناجع.

مع أن من يشعر بنقص الكهرباء في سيارته، يعمد إلى ملء بطاريتها بتحريك السيارة حتى تملأ الحركة البطارية مثلا ُ، إلا أن الإنسان لا يعرف نفسه بل يتهمها في هذه الحالة بالمرض وربما الجنون مع الأسف.

البنكرياس: سيدي.. لقد بينت لي التشخيص. ولكن ما هو العلاج؟

الرأس: العلاج الناجع، إنما هو في الطمأنينة النفسية التي لا تتيسر إلا في العقيدة السليمة التي تتمثل في الإيمان الخالص بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، وطاعته عز وجل، والبعد عن معصيته والرضى والتسليم لقضائه وقدره سبحانه، والإيمان بأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء، لن ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وأن لو اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، وأن المؤمن يؤجر في الصبر على المصائب، كما يؤجر بالشكر على المواهب، وأنه في الحالتين رابح، وما أعظم الإيمان مع الاستقامة، وما أجمل النصيحة الواردة عن خاتم الرسل: “قل آمنت بالله ثم استقم” ((الحديث صحيح، رواه مسلم / الإيمان / ح (55). والترمذي / الزهد / ح (2334). وابن ماجه / الفتن / ح (3962). وأحمد / ح (14869). والدارمي / الرقاق / ح (2595)). وهي مقتبسة من قوله سبحانه في الآية 30 من سورة فصلت: } إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون {. فهذه هي العقيدة السليمة التي تلقي بالطمأنينة في قلب الإنسان وتعطيه قسطاً كبيراً من الراحة، وهى من أهم الضروريات له، بل إن حاجة الإنسان إليها لا تقل عن حاجته للهواء والماء والغذاء، وهي التي تضعه في الاعتدال من كل شيء، دون تطرف نحو اليمين أو الشمال، فلا إفراط ولا تفريط،ولا إسراف ولا حرمان ولكن وسط واعتدال كما يمثله قوله عز وجل، تعليماً لقدوتنا محمد r: } ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ~ ولا تبسطها كل البسط ~ فتقعد ملوماً محسوراً {. وقوله سبحانه: } يا بني آدم خذوا زينتكم عن كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين {. والسرف ضد القسط: الذي يمثل القصد والاعتدال في كل شيء، فلا تبقى بعد ذلك أوهام أو شكوك، فيلقي المرء بنفسه على فراشه آمناً مطمئناً. إن الاطمئنان في القلب يوفر على البطارية الكثير من الصرف.

البنكرياس: وهل استمع الإنسان إلى الإرشادات الواردة في كتاب الله وسنة رسوله r وإرشادات الدعاة المخلصين، وإرشاداتك على ضوء ذلك؟

الرأس: إن الأقلية هم الذين استمعوا إلى النصائح واتبعوا التعاليم فنجوا، ألا وهم الفئة القليلة المؤمنة التي تعيش آمنة مطمئنة، لا يقلقها إلا ما تراه من أخيها الإنسان البعيد عن القيم والمثل والحياة الوسط المستقيمة. أما الأكثرية من البشر، فليتهم فهموا ذلك في أنفسهم وعرفوا المعنى لمثل إشارتي وتنبيهاتي التي – رغم بساطتها – تكون عسيرة عليهم، ولا سيما وأن حب التمادي والاستمرار على المألوف كثيراً ما يغلب على طبع الإنسان، وكثيراً ما يكون مصحوباً بشيء من التعصب والجدل كوباء اجتماعي معد يجب تشخيصه والوقاية منه، وحسن معالجته.

ولله در القائل:

ومن البلية عذل من لا يرعوي عن غيه وخطاب من لا يفهم

 

البنكرياس: إن الكثير من الشباب يقوم بممارسة الألعاب الرياضية المختلفة، تساعدهم وتشجعهم على ذلك جميع الأمم على مختلف المستويات والعقائد والنظم.

الرأس: هذا طيب ويدخل ضمن الهواية كما تقدم.

البنكرياس: ليكن الأمر هواية.. ولكن ألا ترى أن في هذه الهواية النافعة مثلاً – دافعاً قوياً يشغل الناس بها عن هوايات ضارة أو غير نافعة؟

الرأس: هذا صحيح يا عزيزتي.. إلا أن هناك بعض الملاحظات بالنسبة لهذه الهواية وهي:

أ‌- إنها مقتصرة على فئة من الناس.

ب‌- إنها كثيراً ما تأتي بما يزيد عن النفع المطلوب منها، وحكم الزائد كحكم الناقص، وإن الاعتدال هو  

مطلوب في كل شيء.

ج- إن الهاوي كثيراً ما يتمادى في هوايته فيتعرض لحوادث مؤلمة قد تكون مميتة في بعض الأحيان.

د – إذا اعتبرنا أن الرياضة البدنية تمثل إحدى الرياضات الثلاث المطلوبة، فلن يكتمل المطلوب ما لم تمتد  

الهواية إلى الرياضتين الأخريين: الذهنية والروحية.

البنكرياس: أنا أيضاً أفضل ما يفضله سيدي.. الوسط والاعتدال. وأرجو أن تمتد الهواية إلى الرياضتين الأخريين فتقام فيها المسابقات والمباريات وترصد لهما الجوائز كما هو الحال في كثير من المجتمعات الرياضية وإني أشاركك في أمنيتك بأن تنال الرياضات الثلاث ما تستحقه من التشجيع اللازم على مستوى الفرد والمجتمع والدولة , علماً بأن الإذاعات المسموعة والمرئية تقوم بدور كبير في هذا المجال.

الرأس: نرجو لها المزيد من كل ما فيه فائدة للمجتمع.. وعلى كل فلا بد من العودة إلى موضوعنا.

البنكرياس: معذرة يا سيدي أنني أخرجتك عن الموضوع بتشعيب أسئلتي، والحقيقة أنني اعتبرت الحديث معك فرصة لا تسنح لي في وقت آخر، فأرجو أن تأخذني بحلمك ولا تتعجلني مشكوراً.

الرأس: طيب إذا كان لديك أسئلة أخرى فتفضلي، وسنعود إلى تكملة حديثنا عندما تسنح المناسبة لذلك.

البنكرياس: ما فائدة الحديث عن الحضارة وأثرها على الإنسان، مع نقص الطاقة الكهربائية عند الكثير دون تعويض ونحن يا سيدي لا نستطيع أن نفعل شيئاً تجاه ذلك؟

الرأس: صحيح أن الأمر شاق، والمشكلة صعبة، ولكن من واجبي تقديم النصح ما استطعت إلى ذلك سبيلا.. وأن أزيد في الإشارات المرة تلو الأخرى، لعلها تفيد يوماً ما لأكون معذورة أمام الخلاق العظيم الذي جعل هذه المهمة من واجبي. على أني عند اليأس الذي لا يكون إلا بعد استنفاد جميع السبل الممكنة.. فإنه لا بد من أن أفعل شيئاً. إلا إذا كنت تستطيعين مساعدتي في مشكلتي أو تعذريني، وكما قيل: لقد أعذر من أنذر.

البنكرياس: أنا أساعدك؟ وكيف ذلك يا سيدي؟

الرأس: إنني أريد منك في حالة العجز عن تحقيق الموازنة بين الرياضات الثلاث – أن تكوني عادلة في توزيعك للمادة السكرية التي تنفردين أنت بتوزيعها وتنظيمها، وأنت تعلمين شدة حاجتي إليها، فهي تفيدني لا سيما عندما يستنفد المخزون من الطاقة الكهربائية نتيجة لزيادة الاستهلاك عن محصلة الحركة، وخصوصاً عند توالي الأرق والقلق والهم والوهم. فكل ما أريده منك أن تحسبي حسابي،وتراعي وضعي عند التوزيع، بحيث تتوفر لي كفايتي.

البنكرياس: يا سيدي وسيد الجسم كله، إنك تعلم أنني مسخرة لمهمة خلقت من أجلها، وأمانة وجدت للقيام بأدائها من غير إرادة مني ولا اختيار، وإنني مع تقديري لرئاستك، ومعرفتي لقدرتك علي، وعلمي أن من أهم واجباتي تلبية طلباتك، فإنني لا يمكنني القيام بأكثر مما أستطيع وما دمنا جميعاً مشتركين في السراء والضراء.. فما رأيك لو تفهم سيادتك سائر أجهزة الجسم ما تريده منها بالطريقة التي تفهمني بها، وتبين لهم حاجتك إلى استمرار وتعادل منتظم بين الرياضات الثلاث، لما في ذلك من فائدة لنا جميعاً؟

الرأس: إيه.. ليتك لم تقولي هذا يا عزيزتي.. فما أحب أن تنكأ جراحي، وتثار آلامي، مع أنك قلت حقاً ونطقت صدقاً.

البنكرياس: أرجوك المعذرة يا سيدي، فوالله ما قصدت إلى ذلك سبيلا، حتى وما أدري ما الذي أزعجك من قولي؟

الرأس: إنني أخبرك بصراحة يا عزيزتي أنك وأمثالك من الأجهزة التلقائية الأداء، المعروفة بالأجهزة اللاإرادية، أفضل أعضاء الجسم انقياداً، وإطاعة وامتثالاً لي، أما الأعضاء الإرادية فليست مثلكم في الانقياد والامتثال والطاعة. فغالباً ما تؤثر عليه الميول والحوافز، والعواطف والغرائز، وتكون نهباً لصراع وتنافس يدور حولها بين تيارين مختلفين، كالصدق والكذب، والإيجاب والسلب والخير والشر، وكثيرا ُ ما تتمرد علي بانحرافها عن الطريق الأقوم والنهج الأسلم، ولو رجع الأمر إلي وحدي، وتم التجاوب بيني وبين جميع مواهب الإنسان وميوله المختلفة، لانتصرت للوسط المفضل والقصد في الأمر كله، كي يصبح كل فرد لبنة صالحة في بناء مجتمع سليم تعمه العدالة الاجتماعية، ويسوده الإيمان بعقيدة وسط لا يستغني عنها الإنسان بحال من الأحوال، تؤمن بالله وحده، وتأمر بكل خير، وتنهي عن كل شر.

ولهذا خلق الله سبحانه الإنسان وسطاً تغلب عليه الإيجابية في حياده لاستقبال تيارات الخير وتقبلها، والنفور من تيارات الشر والتمرد عليها بالالتجاء إلى ذكر الرحمن. ومن أجل تلك الوسطية المفضلة، سخر له سبحانه ما في الأرض، وحمله الأمانة، وابتلاه بالمسئولية ليكون واسطة العقد ومركز الثقل، وبيت القصيد. لذلك أرسل الله له رسله، وأنزل عليهم كتبه لتوجيهه لخير النهجين وكريم المسلكين.

فإن أبى بميله الكلي نحو السلبية الشيطانية وظلماتها، فإنه يفقد بذلك كل هذه المقومات والامتيازات إلا أن يرجع ويعود مستغفراً ربه تائباً إليه سبحانه توبة نصوحاً، ومن يغفر الذنوب إلا الله؟

البنكرياس: عفواً يا سيدي.. هل هذا يعني.. يعني.

الرأس: يعني ماذا؟

البنكرياس: يعني والله ما أدري ما أقول يا سيدي.. فإني أخشى أن أسيء الأدب في كلامي.

الرأس: لا عليك يا عزيزتي.. تكلمي ما تشائين.. فأنا أعلم مدى ثقتك بي، وطاعتك وانقيادك للنظام في حدود وظيفتك، ونحن الآن نتكلم بصراحة.. فقولي ما تشائين ولا سيما أن أقوالك إيجابية بناءة، ونيتك حسنة ورائدك الخير. ومن جانبي، سأحمل كل ما تقولينه المحمل الحسن الذي ينبغي من مثلي لمثلك.

البنكرياس: شكراً سيدي.. كنت أريد أن أقول: هل هناك تخاصم في سلطانك داخل الجسم؟

الرأس: إن الإنسان كما تقدم يا عزيزتي ملكوت فريد في نوعه تتصارع فيه الروحانية والشهوانية والوازع والغريزة، والصدق والكذب، والخير والشر. وحتى لا تكون محصلته صفراً بالتعادل التام، جعل له سبحانه ضوابط وحوافز، وسلحه بفطرة سليمة وسجية مستقيمة، وضمير حي يفرحه الخير ويحب أن يعرف عنه، ويسوءه الشر ويحاول ستره وإخفاءه والبعد عنه، ويغلب الرجحان نحو الخير لمن يخشى الله سبحان مما يسيئه، ويرجوه فيما يسره، ويستحي من الله أن يراه حيث نهاه، أو أن يفقده حيث أمره، والحياء خير كله علماً بأن الإنسان وإن كان في صراع مستمر مع نفسه الأمارة السوء، إلا أنه لا يخلو من سياج نوراني هادئ ينبهه لجميع أخطائه قبل الوقوع فيها.. ثم يزداد هذا النور بقدر استعداد المرء لاستقباله ولا يتركه حتى يجعله من حزب الله الغالب ما لم يتمرد منتفخاً مكابراً بعوامل نفيسة وظلمات خارجية مصدرها شياطين الإنس والجن.. فيقل النور الأول دون أن يتلاشى. ولذا جعل الله الإنسان – مع إيجابيته الفطرية وضميره الذي لا يخونه ولا يخدعه – حيادياً وسطاً، وجهازاً صالحاً للاستقبال والإرسال. } إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي {. وبقدر ما يزداد النور تنقص الظلمة والعكس بالعكس كسنة كونية.

البنكرياس: أحقاً يعيش الإنسان هذا الصراع؟

الرأس: نعم.. بل لا بد أن يكون هذا الصراع – حفاظاً على ملازمة الوسطية المثلى للإنسان المفضل بها، ولذلك جعل الله عز وجل لكل إنسان قريناً له ورقيباً عليه ملازمين له، فالرقيب مختص بالخير والطاعة والعمل الصالح، وتذكيره به كلما أخطأ، والقرين على العكس من ذلك، يتحمس للشرور والمعاصي ويشجع عليها مصداقاً لقوله سبحانه: } إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون {. الأعراف / 201، وكأنها بطبيعة عملهما المتناقض في تنافس مستمر، وصراع دائم ما بقي الإنسان على قيد الحياة، وكأن كل منهما يحاول أن يحث الإنسان ليستزيد من التسجيل فيما يخصه ويعنيه من الأقوال والأفعال، ويجعله في صفه وجانبه. على أن الشياطين تشكل الظلام، والظلام يحل تلقائياً عند فقد النور كقاعدة لا مفر منها، كما جاء قي قوله تبارك وتعالى في الآية 36 من سورة الزخرف: } ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين {. وقد تحدث الله عز وجل عن الرقيب والقرين في بضع آيات من سورة ق حيث قال سبحانه: } ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ~ إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ إلى قوله سبحانه: } وقال قرينه هذا ما لدي عتيد {.

البنكرياس: اسمح لي سيدي أن أتعدى حدودي بتساؤل أو أمنية خطرت بالي وهي: ليت الله سبحانه لم يخلق لنا مثل هذا العدو المتربص بنا ألا وهو الشيطان والعياذ بالله منه.

الرأس: لا يا عزيزتي.. لا تقولي مثل ذلك حيث إنه لولا السلب من جانب الشيطان لانحاز الإنسان للإيجاب المطلق وفقد الوسطية المثلى المفضلة. إذ لا بد من وجود القاعدة الثلاثية العامة في الخلق كله وهي: السلب، والإيجاب، والحياد. علماً بأن الشيطان لا يستطيع تحويل عباد الله المخلصين من الوسطية المثلى إلى السلب كما ورد في كثير من آيات كتاب الله.

البنكرياس: غريب يا سيدي.. فما كنت أعرف شيئاً عن هذا كله، وإني أستغفر الله العظيم من قول بلا علم.

الرأس: ليس هذا بغريب.. فالواقع والعلم والأثر، كل ذلك يتضافر لتأييد الصراع النفسي في الإنسان وإثباته، حتى إن أجهزة من الكومبيوتر الحديث تقوم بهذا الدور. حيث تظهر هذا الصراع عندما يتحدث الإنسان صادقا ُ أو كاذباً، كما يظهر جهاز الكومبيوتر تصحيح الرقيب للخطأ أيضاً.

البنكرياس: وما هذا الكومبيوتر؟

الرأس: الكومبيوتر كلمة لاتينية الأصل، ومعناها: يفكر.. والكومبيوتر يطلق الآن على أجهزة معينة تستطيع القيام بإجراء العمليات الحسابية والمنطقية والعلمية المختلفة، على بيانات معينة وفقاً لتوجيهات معينة أيضاً. ولا بد من تعريف الآلة بهذه البيانات والتوجيهات عن طريق تلقين الحاسب بالمعلومات بواسطة وحدات الإدخال بعد إعدادها بشكل ملائم يمكنه من تمييزها والتعرف عليها وفقاً لخطة محددة ومعروفة سلفاً، وتدعى هذه الخطة بالبرامج. ثم يمكننا طلب المعلومات أو إجراء العمليات الحسابية، أو المقارنات المنطقية واستخراجها بواسطة وحدات الإخراج.

البنكرياس: وهل يمكن أن يتصرف الكومبيوتر وحده؟

الرأس: إن للكومبيوتر من القدرات والإمكانات ما يجعله قادراً على اتخاذ القرارات في مواقف معينة على أساس قواعد تلقن له – إذا كانت الأوامر الصادرة إليه من الإنسان تتطلب منه ذلك وكان تصميمه مبنياً على أساس الاستجابة لهذه الأوامر. فهناك كومبيوترات يمكنها أن تلعب الشطرنج، وتتخذ بعد كل حركة من الخصم قراراً يتوقف على الوضع القائم عندئذ. كما أن أنواعاً منه تستعمل في مسابقات علمية بين فريقين أو أكثر، وتظهر الإجابة الصحيحة على شاشة التلفزيون. كما تحصي الدرجات لكل فريق حسب إجابته.

البنكرياس: ألهذا الحد تبلغ قدرة الكومبيوتر وأعماله؟

الرأس: نعم يا عزيزتي.. بل اكثر من ذلك فمن الإعمال التي يمكن أن يقوم بها مثلاً، أن يوجه إليه عدد من الأسئلة عن إنسان ما.. وقد يكون عدداً كبيراً جداً، وبعد معالجة الكومبيوتر للإجابات – التي تكون أيضاً محددة بنعم أو لا، يعطي الكومبيوتر نتائج وأوضاعاً ومواصفات معينة عن هذا الإنسان.

وأيضاً يمكن أن يوجه عدد من الأسئلة على نفس الطريقة السابقة، لعددين متساويين من الفتيان والفتيات، ويجاب عليها بنعم أو بلا، وبعد معالجتها بالكومبيوتر، وبسرعة هائلة جداً يعطينا الفتاة المناسبة لكل فتى، والفتى المناسب لكل فتاة، حسب إجابة الطرفين، وكل ذلك طبعاً ضمن برمجة معينة.

البنكرياس: إذن.. ليست أجهزة الكومبيوتر واحدة؟

الرأس: طبعاً يا عزيزتي.. فهناك بعض الأجهزة من أنواع الكومبيوتر تبرمج برامج معينة، وحينما يمسك الإنسان بها تصدر ألواناً معينة حسب انفعالات الإنسان وأحاسيسه النفسية وتظهر اضطرابه الداخلي فيما إذا كان مضطرباً بين الصدق والكذب مثلاً، وهذا النوع هو شاهد استطرادنا، وبيت القصيد في موضوع حديثنا مصداقاً لما جاء في بعض آيات من سورة ق كما تقدم.

البنكرياس: يا سبحان الله.. ما أشد ذكاء الكومبيوتر وقدرته.

الرأس (ضاحكاً): لا يا عزيزتي.. بل مع كل ما تقدم يسمى العلماء الكومبيوتر بالآلة الغبية لن أعماله إنما هي من برمجة الإنسان وترتيبه وتنسيقه. وإذا كانت البرمجة أو المعلومات الموضوعة خاطئة، كانت النتائج بالتالي خاطئة أيضاً. ولكن هذه العظمة التي نراها في هذه المخترعات والمبتكرات ترجع للإنسان، المفضل بالعلم كما فضل الله أباه آدم على الملائكة الكرام من قبل.

البنكرياس: فعلى هذا إذن يستطيع الإنسان الإبداع والابتكار.

الرأس: نعم يا عزيزتي.. ولكن الإنسان لا يوجد شيئاً غير موجود في الأصل، أي لا يستطيع أن يخلق شيئاً من لا شيء.. إنما يستطيع أن يكتشف أشياء موجودة، ولكنها قد تكون مغمورة قبل أن يتوصل إلى اكتشافها. وقد تكون لمحة أو صدفة، وقد تسبق الصدفة أو تعقب اللمحة تجارب مريرة وعمل مضن، وفي كلتا الحالتين لا بد للمبتكر أن يكون لديه استعداد لذلك وتفرغ واستقامة، مع اتخاذ الأسباب كما تكرر في كتاب الله بحق العالم المؤمن “ذو القرنين” مثل قوله سبحانه في سورة الكهف: } وآتيناه من كل شيء سبباً فأتبع سبباً {. والمثال أن الطاقة الكهربائية موجودة قبل اكتشافها بأحقاب كثيرة، وهذا للمثال لا للحصر.

البنكرياس: سمعتك منذ قليل تقول إن النوع الإنساني مفضل على الخلائق بالعلم، كما فضل أبوهم آدم على الملائكة الكرام. حقا سيدي ما قلت إذا كان الكومبيوتر وبرمجته من اكتشافه وصنعه وإذا كان الله سبحانه قد أمر الملائكة أن تسجد لآدم إجلالاً للعلم الذي فضله الله به عليها، فماذا يكون من شأنها مع ذريته؟

الرأس: لقد ورد في الحديث عن رسول الله r: “إن الله وملائكته وأهل السماوات وأهل الأرض حتى الحيتان في البحر وحتى النملة في جحرها ليصلون على معلم الناس الخير” ((الحديث رواه الدارمي/المقدمة/ح (291). والترمذي/العلم/ح (2609) وقال حسن صحيح، وضعفه الألباني (المشكاة ح 213))

وورد عنه r: “إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضي بما صنع” (الحديث رواه الترمذي/الدعوات/ح (3458). والنسائي/الطهارة/ح (158) وأبو داود / العلم / ح (3157). وأحمد / ح (17394). صححه الحاكم وابن حبان وحسنه الألباني ( مشكاة المصابيح ) حديث 212)، وإن آيات كتاب الله وسنة رسوله حافلة بمثل هذه المعاني.

البنكرياس: إن آيات العلم في كتاب الله كثيرة، وأحاديث رسول الله r كثيرة أيضاً.. أقتضب لك منها بعضاً من آيات كتاب الله كقوله سبحانه في الآية 9 من سورة الزمر في سؤال استنكاري: } هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب {. ويضع الله سبحانه العلماء في الآية 18 من سورة آل عمران في سياق موكب شهادة التوحيد الرباني مع الله وملائكته فيقول عز من قائل: } شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم {. يقرن سبحانه من عنده علم الكتاب بالشهادة معه بصدق الرسالة كما جاء في ختام سورة الرعد – الآية 43: } ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب {. ومما ورد عن رسول الله r: “إذا طلعت علي شمس يوم لم أزدد فيه علماً يقربني إلى الله فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم” (لم أجده بعد طول بحث ويحتمل أن يكون قولاً لأحد العلماء). ولا شك أن ذلك امتثال لأمره سبحانه – من خاتم رسله بخطابه سبحانه له r: “وقل رب زدني علماً”.

البنكرياس: لقد فهمت مما تقدم أنه لا يوجد كتاب اهتم بالعلم وتنبأ به كالقرآن العظيم، وخاتم كتب الله، ولا رسول كمحمد بن عبد الله r خاتم رسل الله.

الرأس: حقاً يا عزيزتي.. طالما أن القرآن خاتم كتب الله، وأن محمداً خاتم رسل الله.. فلا بد أن تكون هذه الرسالة هي الخاتمة والمدرسة العليا، وإن الدراسات المتقدمة دراسات علمية متطورة لسعادة الإنسان في حياته الأولى والآخرة. وإن القرآن العظيم قد أنزله الله سبحانه بعلمه مصداقاً لكتب الله ومهيمناً عليها، ليعلم به هذا الإنسان مراحل التعليم العليا ومدارك البيان والاستنباط. وقد جاء في مستهل سورة الرحمن بعد البسملة: } الرحمن ~ علم القرآن ~ خلق الإنسان ~ علمه البيان {. 

البنكرياس: أشكرك سيدي على هذا الإيضاح، إلا أن تساؤلاً يمر بخاطري وهو حبي لمعرفة البيان الذي يعلمه الله للإنسان بعد القرآن.

الرأس: تعلمين أن القرآن العظيم هو خاتم كتب الله وهو المدرسة العليا والمنحة الكبرى، وعجائب آياته لا تنقضي بل تتجدد تجدد الحدثان، وإن هذه العجائب المتجددة التي لا تنقضي هي البيان التفصيلي لآيات كتاب الله كما يظهر من مستهل سورة هود: } بسم الله الرحمن الرحيم ~ آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير {. ويؤيد ذلك مستهل سورة فصلت في أن البيان التفصيلي متجدد للعلماء المتعطشين للازدياد من العلوم الراسخة والقواعد الثابتة.} بسم الله الرحمن الرحيم ~ حم ~ تنزيل من الرحمن الرحيم ~ كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون {

البنكرياس: هل لي أن أطلب منك سيدي تزويدي ببيان ما أمكنك بيانه من هذه الكلمات القليلة العدد الكثيرة المدد الكبيرة المعاني من مستهل سورة الرحمن؟

الرأس: من المعلوم أن علم الله سبحانه لدني أزلي، مطلق لا نهائي كما تقدم. وأنه صفة من صفات كمال الله، كما أن الخلق صفة من صفات كمال الله الأزلية المطلقة اللانهائية أيضاً. وأن القرآن العظيم هو كلام الله سبحانه أنزله بعلمه ليعلمه للإنسان، ثم يعلمه بيانه تفصيلاً بما يتجدد ويستنبط من عجائبه التي لا تنقضي ما دامت السماوات والأرض مصداقاً لقوله سبحانه في الآيات 16- 19 من سورة القيامة: } لا تحرك به لسانك لتعجل به { إلى قوله سبحانه: } ثم إن علينا بيانه {. وقوله سبحانه في الآية 12 من سورة الإسراء: } وكل شيء فصلناه تفصيلا {. ومن ذلك يظهر أنه إذا كان القرآن وبيانه علماً يعلم، فإن الإنسان مخلوق ليتعلم. ولعل سورة الرحمن فيها العلم كله، نسأله سبحانه أن يوفق الإنسان لما خلق له من تعلم القرآن والاستعداد لتلقي بيانه، والسعيد من يوفقه الرحمن لذلك.

البنكرياس: يظهر لي سيدي أنه لما كان القرآن العظيم شاهداً لصدق الكتب المتقدمة، وبما أنه خاتم كتب الله أنزله سبحانه على خاتم رسله، وكان بهما ختام رسالات الله سبحانه، فإن عجائب القرآن المتجددة التي لا تنقضي هي شاهدة بأنه منزل من بديع السماوات والأرض ويعلمه سبحانه الذي هو فوق كل ذي علم عليم. وأن هذه الشهادة القرآنية للقرآن مستمرة ما دامت السماوات والأرض. وما دام في القرآن شهادة للرسالات المتقدمة، فإن في شهادة عجائبه شهادة له كذلك.

الرأس: حق ذلك يا عزيزتي.. ويؤيد ذلك قوله سبحانه في الآية 17 من سورة هود: } أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون {.

البنكرياس: ظهر لي أن فعل يتلوه هو من التلو لا من التلاوة.

الرأس: صحيح أن لعل يتلو معنيين يبينهما المصدر، فإذا كان المصدر تلاوة كان المعنى يقرؤه، وإذا كان المصدر تلواً فمعناه يتبعه من بعده.

البنكرياس: إذاً المعنى هو التلو، أي من بعده، يؤيد ذلك قوله سبحانه:} ومن قبله كتاب موسى { شاهد أيضاً وجملة } من قبله كتاب موسى { معطوفة على جملة } يتلوه { أي من بعده، وأن أتباع موسى عليه الصلاة والسلام يعرفونه حق المعرفة لأنه مكتوب عندهم في التوراة وقد توعد الله سبحانه في الآية الكريمة الكافر به النار، فهل لك سيدي أن تعرف الكافر؟

الرأس: إن الكافر هو ضد الشاكر لقوله سبحانه حكاية عن نبيه سليمان عليه السلام في الآية 40 من سورة النمل: }… ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم {. وتسمى المزرعة ( كفراً)، والزارع كافرا ُ لتغطيته البذور تحت التراب، وربما كانت كلمة(cover) بالإنجليزية المشابهة باللفظ.. تعطي أيضاً نفس المعنى – أي غطاء، وما دامت الكلمة جاءت في كتاب الله المنزل بلسان عربي مبين، فلا بد وأن يكون الأصل عربيا. والكافر في الدين هو الذي يعرفه حق المعرفة، ثم يغطي الحقيقة عناداً واستكبار اً والعياذ بالله. وأن كل من ينكر رسالة محمد r وهو يعلم حقيقتها في قرارة نفسه، أو بلغته الدعوة إلى الله علي بصيرة فأنكرها مكابرة، يعتبر ناكراً للنعمة المسداة والرحمة المهداة، كافراً بالرسالة الخاتمة المزجاة من رب العالمين للناس كافة. ومن كان هذا شأنه فإن مصيره مصير الخشبة التي لا نفع لها ولا تصلح إلا للوقود مصداقاً لقوله سبحانه: } ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا {. وإن الآية 17 من سورة هود المتقدمة تحذر الرسول r نفسه بألا يتطرق إليه أي شك في صدق ما أنزل إليه، وإنه الحق من الله شاهده منه، ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة.ولا شك أن القرآن العظيم تشهد له الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل كما يشهد له إعجازه المتجدد وعجائبه التي لا تنقضي. ولعل كل معنى اجتهادي في الخير – لا يتعارض مع كتاب الله، فقد تشتمل عليه آيات القرآن الكريم والله أعلم بما يريد.

البنكرياس: أحسنت سيدي بهذا الإيضاح.. ثم إن قولك بان العلم صفة أزلية مطلقة لا نهائية من صفات كمال الله سبحانه، كما أن صفة الخلق كذلك صفة أزلية مطلقة لانهائية من صفات كمال الله وأن القرآن الكريم منزل بعلم الله الأزلي السرمدي – هو أمر معلوم لا يشك فيه مؤمن، ولكن ماذا تقصد من ذلك؟

الرأس: إن قصدي يفهمه كل لبيب، وذلك أن القرآن العظيم.. علم من علم الله الذي هو صفة من صفات كمال الله سبحانه، وقد جاءت صفة العلم في مستهل سورة الرحمن قبل صفة الخلق التي هي كذلك صفة من صفات كمال الله، وأن الخلق القائم في السماوات والأرض وغير ذلك قد أبدعه الله وحفظه بعلمه سبحانه.

البنكرياس: لقد فهمت القصد وهو لعلك ترد بذلك على من يقول بخلق القرآن العظيم، أليس كذلك سيدي؟

الرأس: بلى هو كذلك.. بل أكذب افتراءهم على الله وعلى علمه المطلق الأزلي السرمدي، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

البنكرياس: أحسنت سيدي وجزاك الله خير الجزاء، فمن المعلوم أنه إذا كانت الخلائق تخلق فإن العلم يعلم، وقد علم القرآن سبحانه للإنسان المخلوق بعلمه، ولقد آمنت بأن صفتي العلم والخلق أزليتان سرمديتان كما تقـــــدم، ولكن ما رأيك سيدي في قوله سبحانه: } وما أوتيتم من العلم إلا قليلا {.

الرأس: إن علم الإنسان كسبي نسبي بما أعطاه الله عز وجل من قدرات ومواهب وإمكانات للوعي من العلم واستيعابه، ومهما تقدم العلم واستطاع الإنسان أن يرشف من شواطئه وينهل من معينه، وغاص تحت الماء وجال في السماء، وتعرف أسرار عالم الذرة.. فإن علمه سيبقى قليلاً بالنسبة لخضم العلوم في الأفاق وفي الأنفس وبين يدي الإنسان ومن خلفه من علم الله الكلي الذي لا تغيب عنه غائبة في السماوات أو في الأرض وما بينهما، وما شاء الله بعد ذلك. وإنه كلما اكتشف الإنسان شيئاً أو اخترع جهازاً أو حل لغزاً أو أدرك فيضاً ربانياً، أو ظهر له ميدان من ميادين العلم، اكتشف جهله فيه قبل ذلك، وإنه كلما ازداد الإنسان علماً.. ازداد جهلاً في ميادين علمية أخري ما تزال بحاجة إلى من يكتشفها ويفك أسرارها ويحدث أخبارها. وإن طالب العلم يستمر في الازدياد من العلم كلما ظن أنه لا يزال بحاجة إلى المزيد، ومن ظن أنه عالم دون تحديد فهو جاهل. وفي مثل هذا يقول المصطفى r: “قول لا أدري نصف العلم” (أقول “لا أدري نصف العلم ” وهو قول مأثور تكرر في صفحة 65 وصفحة 79 ومصدر ذلك ما جاء في سنن الدارمي في صفحة 57 من المقدمة – البند 186: حدثنا يحي بن حماد حدثنا أبوعوانه عن المغيرة عن الشعبي قال: لا أدري نصف العلم). وقد قيل: كلما ازداد الإنسان علماً كلما ازداد معرفة بجهله مصداقاً لقول الله عز وجل: } وما أوتيتم من العلم إلا قليلا {.

البنكرياس: أشكرك سيدي على بيان ما وصل إليه علمك في وصف علم العلام الحكيم والخلاق العظيم، وعلم الإنسان المخلوق للعلم والإيمان والعمل الصالح. على أني أرى طلبة – يتخرجون في معهد علمي واحد، إلا أن مستوياتهم العلمية متفاوتة ومتباينة، واتجاهاتهم متنوعة، فما هو تعليلك لذلك؟

الرأس: سبق فيما تقدم أن الاستقامة ضرورية ولا سيما لطالب العلم المنتج المبتكر، وحبذا لو كان متغذياً هذا في بيته ومتدرعاً بها في مراحله الدراسية الأولى، فينشأ نشأة حسنة لمواجهة التيارات المعاكسة في بعض معاهد العلم المختلفة. وقد يتأثر الطالب بمشارب مختلف الأساتذة والمعلمين، وربما يخرج متعادلاً فيما بين المشارب المختلفة، على أن محصلة التعادل كما تعلمين صفر. وعند ذلك فإن أي رجحان وإن كانت يسيرة، قد تستهويه بعد تخرجه فينساق معها إما متطرفاً نحو اليمين أو اليسار، علماً بأن طالب العلم الناشئ لا يخلو من دوافع نفسية تجعله يطمئن عل أن إيمانه ناتج عن يقين واقتناع، وقد تساوره الحيرة ويداخله الشك فيلتبس عليه الأمر وقد يوصله ذلك إلى الحقيقة – ضالته المنشودة، وقد يضيع على أن للدعاة الصادقين المخلصين الذين هم على المحجة البيضاء والملة السمحاء والدين القويم دورهم في اجتذاب أمثاله وهدايتهم للطريق الأقوم والله سبحانه يهدي إليه من ينيب. هذا من ناحية الاستقامة التي هي الأساس، أما من الناحية العلمية، فإن العلم في مراحله الدراسية الأولى قد يكون قدراً مشتركاً بين جميع الطلاب، مع تفاوت نسبي في المواهب والمكاسب، وإن الإنسان كلما اتجه إلى القيم والمثل وكان حب الازدياد من العلم ديدنه وهدفه، واختار له طريقاً تخصص فيه وتفرغ له، ودأب على دراسته والتفكير فيه، وكان إجراء التجارب العلمية شغله الشاغل وهمه المتواصل، فإنه يكون أجدر بالنبوغ فيه والوصول إلى اكتشاف كنوز وخبايا علمية فيها فائدة له ولمجتمعه.

البنكرياس: أشكرك سيدي على هذا الإيضاح، وصحيح أن الطالب الناشئ يـتأثر بأستاذه ومدرسته ومجتمعه، ويحب من كل قلبه أن يكون شيئاً مذكوراً وعضواً بارزاً بين زملائه وأقرانه إن خيراً فخير أو شراً فشر. وبمناسبة ما جاء ذكره عن إجراء التجارب، فإنني أعتقد أن التجارب معرضة لنجاح كما هي معرضة للفشل أيضاً.

الرأس: حقاً ما ذكرتيه عن غالبية الناشئة.. ولله در القائل:

إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ولا تصحب الأردا فتردى مع الردي

عن المرء لا تسل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي

 

فكل تجربة معرضة للنجاح والفشل.

البنكرياس: حسناً.. بما أن التجربة معرضة للنجاح أو الفشل أفلا تعتبر ضياعاً للوقت، وهدرا للمال، وزيادة للتعب، وسعياً فيما لا طائل تحته إذا كانت من أناس غير جديرين بالتجارب؟

الرأس: طالما أنها تجارب فالناس في بادئ الأمر فيها سواء، فقد قيل إن العاجز المجد خير من القادر الكسلان. وإن الفشل طريق للنجاح، وذلك حينما يحاول المرء الاستفادة منه وتقييمه كمرحلة في طريق النجاح. وإن كل إيجابي معرض للخطأ والصواب، وإذا كان السلبي لا يخطئ فلأنه لا يعمل. وتعاليم الدين لا تريد من الإنسان أن يكون إمعة مع كل قديم مألوف لديه، وسلبياً مع كل جديد غريب عليه، فيفضل الموقف السلبي على الاعتراف بالجهل فيه كي لا يفقد مكانته بين أقرانه الذين غالباً ما يسايرون السلبية لنفس الغاية. فتعاليم الدين الحنيف تريد من الإنسان أن يسخر مواهبه وقدرته الإيجابية المفيدة للازدياد من العلم، وإنها فتحت الآفاق أمامه وقدراته للعمل وللدرس، وتكرار البحث والتجربة، وجعلت للمجتهد المصيب أجرين: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، ولم تحرم المجتهد المخطئ من أجره على الاجتهاد كما في قوله r فيما معناه:”من اجتهد فأخطأ له أجر، ومن اجتهد فأصاب فله أجران” ((الحديث رواه البخاري/ الاعتصام بالكتاب والسنة /ح (6805). ومسلم/ الأقضية/ ح (3240). وأحمد/ ح (17106). والترمذي /الأحكام / ح (1248))

علماً بأن الاكتشافات العلمية غالباً ما تكون في البدء صدفة، لذا فإن التجارب العلمية ليست وقفاً على أحد، فإننا نرى بعض المعاقين من العمي والصم وناقصي الأطراف قد نبغوا في مجالات علمية وفنية مذهلة، وكما قيل: كل من سار على الدرب وصل.

البنكرياس: أشكرك سيدي فلقد فهمت مما يظهر من حديث رسول الله r أنه لا يريد للمؤمن التواكل والتراخي ومجرد الاعتماد على ما هو مسطر في كتب دون تفكير وبحث وتمحيص لا سيما إذا كان ذلك برسوخ في علم، وصواب في فهم، وصدق في عزم، وفطرة سليمة وسجية مستقيمة تكرر الأمر به في كتاب الله سبحانه وسنة خاتم رسله r، فقال سبحانه: } وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين {. وقال الرسول الكريم r: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه” ((رواه البيهقي والطبراني وصححه الألباني. السلسلة الصحيحة ح (1113)).

الرأس: نعم يا عزيزتي.. لقد جاء في الحديث الشريف في مثل هذا المعنى: “الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها” ((رواه ابن ماجه في كتاب الزهد (1395)). وفي حديث آخر: “نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فبلغه مثل ما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع” (تقدم تخريجه). والسامع صحابي.. والمبلغ كل من بلغه الأمر بعد ذلك. وإن من بين سطور القرآن الكريم وأحاديث خاتم رسل الله r.. علوم راسخة وحكم راشدة يستنبطها من وفقه المولى سبحانه لذلك.

البنكرياس: إن العلماء الذين حصلوا على شهرة عالمية هم الذين كان لهم تلاميذ حفظوا دروسهم في صغرهم وتعمقوا فيها، وشذبوا فيها وهذبوا، ثم نشروها بعد ذلك، فتوارثها تلاميذهم من بعدهم.. وهكذا. أما من لم يكن لهم تلاميذ فربما كان علمهم أعم فائدة وأكثر صواباً، إلا أنه مع الأسف يموت علمهم معهم.

الرأس: هذا أمر مسلم به، فمن واجب صاحب العلم أن يكون له طلبة يتدارس علمه معهم ويغرسه فيهم، ليحفظوه منه وينقلوه عنه.

البنكرياس:صحيح ما تفضلت به سيدي، ولكن ما رأيك أن مثل ذلك قد يكون مذاهب علمية شأن المذاهب الدينية والمذاهب الحزبية، التي غالباً ما تتصارع فيما بينها لمجرد المناصب – دون تحكيم المواهب، فيضيع الأمر من خلال هذا التعصب المجرد والجدل الغوغائي سواء كان ذلك بالنسبة للدين أو الحزب أو المدرسة؟

الرأس: شكراً على هذه الملاحظة، وكما قيل: (إذا عرف السبب بطل العجب). وقد ذكرت أن السبب هو التعصب الأناني والجدل الغوغائي، وهذا ليس من خلق العلماء الذين تهمهم معرفة الحقيقة. ويصدق عليهم الحديث الشريف: “الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها” (تقدم تخريجه). وتصدق عليهم هذه الآية الكريمة: } ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا { البقرة /269

البنكرياس: ما رأي سيدي في تكوين هيئة يتسم أعضاؤها بالعلم والإيمان والورع والإخلاص – بعيدة عن الأغراض والأهواء، تتولى الرقابة على جميع وسائل الإعلام والمدارس العامة والخاصة، لانتقاء البرامج المفيدة، واختيار غارسي الفكر والعلم في الأذهان، بحيث يكونون على جانب من المثل القيمة والأخلاق الفاضلة والتوحيد الخالص. حفاظاً على التراث وحرصاً على سلامة العقيدة في النشء.

الرأس: هذا كله حسن يا عزيزتي إن وجد أناس في مثل هذا الوصف، وخاصة إذا سملت الهيئة من المرضين اللذين سبق أن ذكرت أنهما سبب الخلاف والاختلاف.. وهما التعصب المجرد، والجدل في سبيل ذلك نسأله سبحانه الحماية والوقاية.

البنكرياس: لو فكر الإنسان بعيداً عن الغوغاء بنية حسنة وطوية صادقة مع نفسه أو مع صديق يتناقش معه في أمر من الأمور العامة أو الخاصة – بقصد التشاور والوصول إلى نتيجة واقعية نافعة.. بتحكيم العقل والنقل لا يهمهما إلا الحل السليم والفهم القويم من أي منهما جاء، ثم تكرر مثل هذا النقاش بين اثنين اثنين من أفراد المجتمع، يتم بعده الاجتماع العام، فإذا بالكثير من الحاضرين يتجاوبون مع الفكر السليم والمنطق القويم والحكمة البالغة كفكرة أساسية لهم، فما رأي سيدي بذلك؟

الرأس: إن كتاب الله يؤيد مثل هذا المعنى بقوله سبحانه آمراً رسوله r بأن يعظ الجموع الغوغائية بهذه الآية الكريمة: } قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا { سبأ / 46.

البنكرياس: أشكرك سيدي على هذا الإيضاح.

الرأس: ( بعد صمت طويل ) هل انتهت أسئلتك عند هذا الحد؟

البنكرياس: عفواً.. لقد كنت أسائل نفسي عن كيفية علاج أمراضنا العصرية المتعددة، فهل لك أن تتفضل بما ترى فيه العلاج الناجع والسلامة منها سيدي؟

الرأس: إن ما تقدم يا عزيزتي يتلخص في أن الدواء الشافي والعلاج الكافي يكمن في الإيمان الخالص والعمل الصالح، وإن من الأعمال الصالحة – سلامة الأداء للرياضات الثلاث: البدنية والذهنية والروحية، مع الاعتدال في ممارستها – كل حسب سنه وقدرته – ومع الموازنة في الأمور كلها دون تفريط أو إفراط، وخير الأمور أوساطها. وأن الله سبحانه يحب القصد في الأمر كله. وبهذا يحصل التنسيق والتفاهم في الجسد كله، كما يحصل التجاوب بين جميع أعضاء الجسم وبين مواهب الإنسان وقدراته، وعند ذلك تتضاءل الأمراض العصرية، ويسود المجموعة البشرية التعايش في سلام ووئام.على أن الأمر الذي أحذر منه هو أن يستمر الإنسان في عدم تفهم إشاراتي، ويكتفي بأنه قد أوجد اسماً موحداً لهذه الأمراض، ثم يأخذ في البحث عن علاجها بالمهدئات والمنومات وغير ذلك مما يزيد الطين بلة واللهب اشتعالاً، يحرمني من الطاقة الكهربائية الناتجة عن الحركة، كما أحرم من الطاقة السكرية الناتجة عن توزيعك كما تقدم وفي هذه الحالة.

البنكرياس: لقد أخفتني والله يا سيدي.. وفي هذه الحالة ماذا..؟

الرأس: في هذه الحالة قد يبلغ السيل الزبى، ويسبق السيف العذل، فلا يكون لي خيار في القضاء عليك لأتحصل على كفايتي من السكر. وإذا نتج عن ذلك فوضى في توزيع السكر، وزيادة في الأمراض السكرية وما يتفرع عنها من الأمراض الأخرى.. فإن إرادة الإنسان ومواهبه تكون هي المسئولة عن ذلك لبعدها عن القيم والمثل والاعتدال والقصد في الأمر كله.

البنكرياس: لقد ذكرت إرادة الإنسان يا سيدي.

الرأس: نعم .. وهل هناك شيء عنها؟

البنكرياس: أردت أن أستفسر عن إرادة الإنسان بالنسبة لإرادة الله التي هي فوق كل إرادة.

الرأس: لقد تقدم لك عن علم الله وعلم الإنسان، ولعلك تريدين الآن ما أستطيع أن أقدمه حول الإرادة الكلية التي هي إرادة الله، والإرادة الجزئية التي هي إرادة العبد – أي الإنسان.

البنكرياس: نعم يا سيدي.. ولكن معذرة إن أطلت، لآني شعرت بأن السيف مسلط للقضاء على، فلعل في ذلك تطويلاً للوقت، كي يكون دوري في ذلك قريب الشبه بدور شهرزاد كما جاء في أسطورة ألف ليلة وليلة.

الرأس: لك الحق في الخوف مني، الأمر الذي قد لا يكون لي خيار فيه.. إلا أن دورك يختلف عن دور شهرزاد، ولو كان دورك مثله لما انتظرتك، ولما سمعت منك، ولكن أسئلتك غالباً ما تكون مهمة ومفيدة وهادفة. وجواباً على سؤالك أقول: إن إرادة الله أزلية لا نهائية مطلقة، وبكفي أن أقول لك إنها صفة من صفات كمال الله غير المحدودة، كصفة العلم وصفة الخلق المتقدمتين، فكلها من صفات كمال الله سبحانه. أما إرادة الإنسان فإنها جزئية محددة، على أنه وإن كان الإنسان يستطيع صرفها إلى جانب الخير وجانب الشر، وهو مسئول عن جميع تصرفاته الإرادية لما وهبه الله من مواهب جمة، ميزه بها على جميع المخلوقات، إلا أنها في حدوده كإنسان وعبد مخلوق لا يمكن بحال من الأحوال مقارنتها بصفات كمال الله وإن توحدت التسمية، لأن الله سبحانه ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير: } لا يسأل عما يفعل وهم يسألون {.

البنكرياس: لقد حصل فيما سبق اختلاف عند مختلف الأديان حول الإرادة والمسئولية فيما بين العبد وربه، فهل لديك في هذا الأمر الهام شيء من كتاب الله – يهدي لما اختلف فيه من الحق بإذنه سبحانه. مما تقدمه للبشرية لإزالة مثل هذه الخلافات وحلها حلاً جذرياً؟

الرأس: أرجو ذلك لأني أعتمد في كل ما أقول على كتاب الله وسنة رسوله، ولعلي أستطيع أن أقتطف لك شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله، فأقول إن للإرادة دوراً في توجيه السمع والبصر والفؤاد، والعكس صحيح أيضاً.

وفي هذا المعنى يقول سبحانه: } إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا {. وكذلك الأمر بالنسبة للجوارح، وقد جاء في الحديث أن النبي r رأى رجلاً يعبث بلحيته في أثناء الصلاة فقال: “لو خشع قلب هذا الرجل لخشعت جوارحه” (الحديث ضعيف جداً بل قال الألباني في السلسلة الصحيحة ح(110) إنه موضوع والحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 285 ) . وإن الإنسان ككل – خليط من ميول وعواطف ورغبات ورهبات، ولكن الله سبحانه جعل لنا سمعاً وبصراً وعقلاً نميز به بين الخير والشر والنفع والضر. ولعل الآيتين الثانية والثالثة من سورة الإنسان تشتملان على هذا المعنى وهما: } إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيرا ~ إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا {. وأقول لك باختصار إن كل شيء يكون الإنسان مسئولا عنه ومحاسباً عليه هو نابع من إرادته الجزئية التي يستطيع صرفها نحو جانب الخير أو العكس. وفي الآيتين 18 – 19 من سورة الإسراء توضيح للفرق بين الإرادة الجزئية والإرادة الكلية حيث يقول سبحانه: } من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ~ ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحورا ~ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا {. وفي الآية 62 من سورة الفرقان يقول عز وجل: } وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا {. وفي سورة الأحزاب الآيتين 28و29، يأمر الله عز وجل رسوله r بمخاطبة نسائه، محملاً إياهن ما ينتج عن توجيهه إرادتهن حيث يقول جل شأنه: } يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا ~ وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيما {. ويقول سبحانه في سورة النساء – الآية 134: }ومن كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعاً بصيرا{. وفي الآيتين 15 – 16 من سورة هود يقول عز وجل: } من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم لا يبخسون ~ أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون {. وأخيراً أورد لك قوله تبارك وتعالى في الآية 20 من سورة الشورى، } من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب {. وأذكر بهذه المناسبة حديث رسول الله r ” رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ” (الحديث رواه ابن ماجه / الطلاق / ح (2033)، ح (2035) والحديث ضعيف انظر كشف الخلفاء 1/ 522.

البنكرياس: لقد اقتنعت والله من أول آية سمعتها، إلا أنني لم أقاطعك حباً في سماع المزيد من كلام الله عز وجل. إنما السؤال الذي يخالجني هو: لماذا يختلف جميع أتباع الرسالات الربانية حول هذه الأمور بينما كتب الله سبحانه قد جاءت واضحة بينة لتحق الحق وتبطل الباطل، وتهدي إلى الخير والفوز والسلام، وكل طريق قويم؟ ولماذا أتبع المسلمون بالذات سنن من سبقهم من اليهود والنصارى – مع أن خاتم كتب الله سبحانه المنزل على خاتم رسله r يقول في الآية 213 من سورة البقرة جاء فيها: } كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدي الله الذين أمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم {.

الرأس: يظهر كما تقدم لك. أن الخلافات غالباً ما تكون ناتجة بين البشر عن أغراض أو أمراض أو عن تفاخر وتنافس بين الهيولات الإنسانية، أو عن جهل أو جدل، وغالباً ما يمسك جانب بطرف من الأمر المختلف عليه بينما يتمسك الجانب الآخر بالطرف الثاني، فيأخذ كل واحد منهما بشد الجانب الذي بيده، مشيداً بمزاياه الجمة ومعيباً لنقائص يراها في الجانب الآخر، فيقابله الآخر بالمثل.. فينقطع الأمر بين الجانبين وبيد كل منهما شق منه يتمسك به، ويدافع عن محاسنه، بينما هو شق وإن كان يحمل مزايا طيبة، إلا أنه تعوزه التكملة من مزايا طيبة قد تكون موجودة في الشق الثاني أيضاً. ولو خلصت النوايا واستعملت الحكمة، لأرخى الشد كل من الطرفين، وتمت الحلقة والتقى الجميع على المزايا الطيبة في الجانبين، وأزيلت النقاط المنتقدة من كل منهما، ولزال الخلاف وتم الوفاق. على أن المثل الكامل هو ما يشير إليه سبحانه في العقيدة التامة ألا وهي العروة الوثقى التي لا انفصام لها – بالآية 256 من سورة البقرة: } لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم {. والآية 22 من سورة لقمان: } ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور {. وإن كل خلاف يصل إلى درجة التعصب والانقسام معناه محاولة إحداث فجوة في العروة الوثقى والحلقة التامة. } ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون {.

البنكرياس: نعم إن الإسلام عروة وثقى وحلقة لا يعتريها أي نقص في أي جانب من الجوانب.. وعليه ما رأي سيدي في سؤال حير الكثيرين وهو: هل الإنسان مسير أم مخير؟

الرأس: لعل مثل هذا السؤال وغيره من التساؤلات الأخرى لا يخرج عن هذا المعنى المتقدم، لأن الإنسان مخير في حدود إرادته الجزئية.. يحاسب على مقدرته المحدودة في التصرف فيها، وهو في الوقت نفسه مسير فيما هو فوق ذلك.

لأن الإرادة الكلية المطلقة هي لله وحده سبحانه ولا يحاسب الإنسان عليها إذ أن من الممكن أن يقول إنسان: أنا قائم بعملي الآن إذا كان يقوم به فعلاً وفي اللحظة التي بدأ بها كلامه.. أما من يريد أن يقول إني فاعل ذلك غداً مثلاً.. فإن عليه أن يستثني مشيئة الله الكلية. ولقد عاتب الله سبحانه نبيه محمداً r ونهاه عن مثل ذلك بقوله سبحانه في الآية 23 من سورة الكهف: } ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله {. وقد جاء في الآيات 17- 25 من سورة القلم عن قصة أصحاب الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين دون أن يستثنوا مشيئة الله الكلية، فلم يفدهم قسمهم وثقتهم بأنفسهم وهمتهم، بغدوهم على حرد واثقين بقدرتهم على تنفيذ ما صمموا عليه مصبحين. دون أن يخطر على بالهم بأن يطوف طائف على جنتهم من ربهم أثناء نومهم ليلا (فأصبحت كالصريم). وجاء في الآيات 25-29: } فلما رأوها قالوا إنا لضالون ~ بل نحن محرومون ~قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون ~ قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين {. وقد يثاب الإنسان على ما يصاب به بتقدير إرادة الله الكلية لا سيما إذا صبر واحتسب، كما يؤجر على توجيه إرادته إلى الخير إذا ما حال دون تنفيذ إرادته حائل قاهر، وكذا فيما إذا غالبته إرادته إلى تنفيذ شر – امتنع عن تنفيذه بدافع من إرادته الجزئية خوفاً من الله سبحانه. على أن الذين اختلفوا في مثل هذا التساؤل لو عرفوا أن الإنسان مريد ولكنه مسير ومخير، لما اختلفوا اللهم إلا إذا كان السبب في الاختلاف هو سوء في الطوية وحب الظهور وتفريق للجماعات.

البنكرياس: أشكرك سيدي على هذا الشرح الوافي الذي يتضح منه أن الإنسان مع كونه مريداً، فإنه مخير في أشياء تدخل في مطاق قدرته، كما أنه مسير في إرادة يصمم على تنفيذها ويحول حائل قهري دون ذلك. ولكن هل لديك دليل عملي يعرفه كل فرد في نفسه؟

الرأس: غالباً ما يخطط الناس لتصرفاتهم بما يتناسب منع القدرة والمسئوليات. إنما قد تصادفهم أمور لم تخطر على بالهم فيفشل تخطيطهم، وليس على الإنسان إلا أن يتوخى القدرة على تحقيق خطته.. فإذا ما عجز، أرجع ذلك إلى القدرة الإلهية معترفاً أن وراء مشيئته مشيئة عظمى يجب ألا تغيب عن ذاكرته، وأن الحياة كلها غمرات قد ينجلين عند الصبر والاحتساب والمحاولة. ولله در القائل: ( ما كل ما يتمنى المرء يدركه، تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ). ولكن الربان الماهر قد يستطيع تجنب مواجهة الرياح بشيء من المواربة بشطارة يعرفها الملاحون ويستعدون لها من جانبهم – فيفوزون بالسلامة بتوفيق الله سبحانه شأن الإنسان في سائر حياته.

البنكرياس: أحسنت سيدي. ولكن هل لك أن تتفضل بدليل آخر يسلمه الفرد في حياته اليومية؟

الرأس: قد يعزم الفرد إلى جهة ما، فبأخذ عدته وزاده ومركبته ويتحرك للسير.. فقد يكون مخيراً في ذلك عند هذا الحد. ولكن هل يكون مخيرا بضمان سلامته وسلامة مركبته إلى المكان المنشود؟ أو أن تتحقق مهمته التي سافر من اجلها؟ فكل ذلك فوق علمه وإرادته وقدرته.

البنكرياس: حقاً ما قلته سيدي.. فقد يصاب المتجه أو راحلته أو هما معاً قبل بلوغ حاجته. فهذا ما يخرج عن إرادته، وفي ذلك يكون مخيراً بالأولى ومحاسباً عليها إن خيراً فخيراً أو شراً فشر، ومسيراً بالثانية، مأجوراً على الإيمان واحتساب المصيبة والصبر عليها، بدليل قوله تبارك وتعالى في الآيات 155-157 من سورة البقرة: } ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ~ وبشر الصابرين ~ الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ~ أولئك عليهم صلوات من ربهم ورجمة وأولئك هم المهتدون {. وقوله سبحانه: } وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت { وقوله سبحانه: } ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما {. النساء / 100

الرأس: أشكرك على هذا التقدم المستمر.

البنكرياس: إن كل تقدم تراه يا سيدي، هو حصيلة لما فهمته منك من إرشاد وتوجيه وإيحاء

الرأس: وماذا عندك الآن بعد يا عزيزتي؟

البنكرياس: هل لك أن تتكرم علي بالزيادة..

الرأس: أتطلبين الزيادة حباً فيها أم لإطالة الوقت أم لأخذ فترة للتفكير؟

البنكرياس: لعلي أقصد ذلك كله.. على أنني إذا طلبت منك الزيادة فلك أن تتكرم بها إذا كانت ممكنة.. ولك غير ذلك وإني رهن إشارتك وأسيرة فضلك ويهمني رضاك عني.

الرأس: الفضل فضل الله سبحانه ورضوان من الله أكبر.. أرجوه لي ولك. وإنه مما قيل في فضل الاجتهاد والتفكير ما جاء بمجلة التربية الإسلامية التي تصدر في بغداد في عددها العاشر للسنة الحادية والعشرين لفضيلة الشيخ إبراهيم النعمة ( الموصل ) ورد بيت من الشعر هو:

إذا كنت في كل الأمور مقلداً لماذا ترى أعطاك خالقك الفكرا

 

وتليه هذه الفقرة: “والحرمان من قوة الإرادة ومضاء العزيمة خسارة للنفس أيضاً.لأن المسلم مكلف بنصرة الحق وخذلان الباطل ومقاومة الفساد. فإذا كان المسلم مجرداً من الإرادة القوية والعزيمة الماضية – فإنه لا يستطيع أن يقوم بشيء من ذلك فيكون قد خسر نفسه وذلك هو الخسران المبين”.

البنكرياس: أشكرك سيدي على هذا الإيضاح. وهل لك أن تتكرم علي بنبذة عن الهداية التي تفضل بها سبحانه هدية للمؤمن الصابر المحتسب مع صلوات منه سبحانه ورحمة كما جاء في الآية 157 من سورة البقرة.

الرأس: إن الهداية هي أسمى مرتبة يصل إليها الإنسان لقوله سبحانه: } وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى {. وقوله سبحانه: } إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشى إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين {. والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولا شك أن في تقديم الهداية للصابر المحتسب لأكبر دليل على رضوان الله عنه. وأن معية الله أكبر من ذلك لقوله سبحانه: } يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين {. البقرة / 153. وقد تكرر مثل ذلك في قوله سبحانه في الآية 146 من سورة آل عمران: } وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين {. وآيات الصبر وما ينتج عن الصبر من خيري الدنيا والآخرة كثيرة في كتاب الله. وعندما نزلت الآية 157 من سورة البقرة قال عمر رضي الله عنه: نعم العدلان ونعمة الوساطة. (إن العدلان هما الصلوات والرحمة، والوساطة هي الهداية). والهداية عطاء واستعداد، ومدد واستمداد، وإرسال واستقبال بين العبد وربه، وهي إصابة الهدف على بصيرة.. وهي النور في مواجهة الظلمات، وهي الدلالة والمعرفة ووضوح الرؤية.

البنكرياس: شكراً لك سيدي على هذه اللفتة الكريمة حول مرتبة الهداية.. فطوبى للصابر المحتسب على هذه الهبة القيمة، والهدية الكريمة من ربه سبحانه تقدست أسماؤه وتباركت آلاؤه وجل ثناؤه فهل لك يا سيدي أن تزيدني دراية عن الهداية؟ وفقنا سبحانه للصبر وأجزل لنا الآجر إنه على ما يشاء قدير.

الرأس: إن الهداية نور من نور الله سبحانه تستمده وتشعه المشاكي الصالحة المتصلة بنور الله،وإن الإنسان ملكوت فريد – بقابليته واستعداده للنور والظلام، والهدى والضلال، يستطيع بإيمانه وصلاحه وشفافيته النيرة المتصلة بنور الله سبحانه – أن يستقبل النور ويشعه للآخرين.

والعكس بالعكس، مصداقاً لقوله سبحانه : } الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونه لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم {   

فالمشكاة الصالحة المتصلة بنور الكهرباء مثلاً، تستمد النور وتشعه للآخرين، وإذا كانت المشكاة فاسدة فلا يفيدها الاتصال. أما في حالة عدم الاتصال – وإن كانت صالحة – فلا تستطيع أن تستمد النور وتشعه، يؤيد ذلك قوله سبحانه في الآية 43 من سورة النمل في وصف بلقيس – ملكة سبأ: } وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين {. ومن ذلك يظهر أنها كانت مشكاة صالحة نبتت في مجتمع غير صالح، وأن فساد البيئة حرمها من الاتصال، فلم ينفعها نورها الفطري إلا بعد ما أدركها النور الكلي في: بسم الله الرحمن الرحيم، ألقى عليها من طائر صغير بكتاب مقتضب إلا أن فيه النور والهدى، } إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم { وجدت فيه ضالتها المنشودة، فاتصلت وآمنت بالله رب العالمين لأنها مشكاة صالحة، حتى إنها قالت في آخر المطاف عندما قدمت على نبي الله سليمان: } رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين {. وكما أن الضلالة جهل وظلمات، فإن الهداية علم ونور من الله للصالح من عباده لقوله سبحانه: } واتقوا الله ويعلمكم الله {، وقوله سبحانه: } وحناناً من لدنا وزكاة وكان تقيا {. أي أن نبي الله يحي، كان جديراً لذلك بتقواه فالتقي نور الحنان والزكاة من الله بنور التقوى عند يحي. وترين أيضاً أن كثيراً من آيات الله تتعرض لذلك، ولو ابتدأناها بفاتحة الكتاب لوجدنا فيها قوله سبحانه: } إياك نعبد وإياك نستعين ~ اهدنا الصراط المستقيم {. وفي مستهل سورة البقرة نجد قوله تبارك وتعالى: } الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين {. وقد لا تخلو سورة من سور كتاب الله من هذا المعنى، في مقابل قوله سبحانه أيضاً: } إن الله لا يهدي القوم الظالمين {.} والله لا يهدي القوم الكافرين {، } إن الله لا يهدي كيد الخائنين {، ] إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب [، ] إن الله لا يهدي القوم الفاسقين [. والآيات في هذا المجال كثيرة أيضاً.

البنكرياس: أشكرك سيدي على هذا الإيضاح.. ولكن هل من حقي أن أسأل عن الدليل في تشبهك بنور الله بنور الكهرباء، وكيف عرفت ذلك؟

الرأس: أحب أن أبين لك أولاً ما أشكل عليك فهمه، وهو أن هناك فرقاً كبيراً بين مثل – بكسر الميم وسكون الثاء – التي تعطي معنى التشبيه، وبين مثل – بفتح الميم والثاء – التي تأتي لضرب المثل. فإن الله سبحانه يضرب مثلاً لأيمان المرء بربه وصلة نور الإيمان بنور الرحمن في الآية 35 من سورة النور المتقدمة. ولعل في الآية 36 من نفس السورة تأييداً لما جاء بالآية 35 قوله سبحانه: } في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه { ويظهر من ذلك أن الله سبحانه أذن باستعمال الكهرباء كتابة – بحروف كهربائية مرفوعة على المساجد مثلاً ليراها القريب والبعيد – وقولاً، فقد أذن سبحانه أن ترفع المنائر للآذان والمنابر للخطابة، وأن تستعمل مكبرات الصوت لذكر اسم الله فيها.. وكل ما فيه ذكر اسمه وتوجيه الناس إلى اتباع أوامره واجتناب نواهيه، وما فيه خير الدنيا والآخرة. ويدخل في ذلك ذكر اسم الله سبحانه في الإذاعات المسموعة والمرئية.. والتسجيلات القرآنية وكل ما فيه ذكر الله وتذكير العباد. الآية 36 من سورة النور هي: } في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة.. {.

البنكرياس: أحسنت سيدي.. والحق أنها لفتات تزيد طالب العلم علماً وفهماً، وتزيد المؤمن إيماناً ويقيناً بأن هذا القرآن العظيم منزل بعلم الله الأزلي الكلي اللانهائي المطلق، الذي هو فوق كل علم. وما رأيك سيدي في قوله سبحانه: } يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار {.

الرأس: إن العلم والواقع يجيبانك على ذلك، فالمعروف أن زيوت المصابيح لم تكن تضيء إلا بعد إشعالها بالنار، أما المصابيح الكهربائية التي ضرب الله بها مثلاً لاستمداد نوره واشعاعه للآخرين سبحانه فإنها تنير دون أن تمسسها نار.

البنكرياس: حقاً سيدي إن القرآن العظيم فيه العلم كله لأته كلام الله عز وجل المحيط بكل علم، ولا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء سبحانه. لكن ما هي الصلة بين الزيت في المصباح العادي القديم والطاقة الكهربائية الموجودة بيننا اليوم؟

الرأس: إن القرآن العظيم سابق لكل علم، ومن واجب الإنسان أن يتخذ الأسباب في العلم ومواصلة البحث مستعملاً ذهنه وجميع مواهبه، أما عن صلة الزيت بالطاقة الكهربائية – فإن الزيوت تتحول كلها إلى طاقات لا يستغنى عنها في تشغيل الحركة المولدة للطاقة الكهربائية.

البنكرياس: أكرر لك شكري سيدي على ما تفضلت به من الإيضاح، ولكن ماذا يتبين لك في قوله سبحانه: } لا شرقية ولا غربية {؟.

الرأس: إن القول بالنفي غالباً ما يتقبله الإنسان دون جدل، مع أنه وإن كان ظاهر قوله سبحانه } لا شرقية ولا غربية { – هو نفي، إلا أنه يفيد الإيجاب، لأن الجهات الأصلية أربع، فإذا نفت الآية الكريمة أن تكون الشجرة المباركة في الجهتين الشرقية والغربية منها.. فمعنى ذلك إثبات لها في الجهتين الأخريين: الشمالية والجنوبية. ومن المعلوم أن المسار المغناطيسي يأخذ اتجاه القطبين الشمالي والجنوبي، وأن العلاقة بين الكهرباء والمغناطيس قوية جداً.

البنكرياس: هل لك سيدي أن تبين نوع هذه العلاقة؟

الرأس: إن الآية القرآنية تقول: } يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية { والذي يتبين من ذلك أن القوة الكهربائية توقد في مجال مغناطيس.. أما أنا فلا أعرف كيف يتم ذلك.

البنكرياس: أشكرك سيدي، فلقد جاء في الأثر “قول لا أدري نصف العلم” (تقدم تخريجه). وجاء في الآية 7 من سورة الأنبياء } فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون { أفلا ترى سيدي أن نستعين بآراء العلماء المتخصصين في هذا الشأن.

الرأس: إن في ذلك واجب علينا لقوله r: “طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة” ((الحديث رواه ابن ماجه / ح (220) وإسناده ضعيف انظر مشكاة المصابيح ح ( 218)) .وعليه فقد طلبت من أقرب الناس إلي ممن يجيد اللغة الإنجليزية، وهما المهندس محمد جاويش والأستاذ وجيه الشريف.. وكلاهما بعمل معنا في مكتبنا بالقاهرة – طلبت منهما أن يستعينا بموسوعة باللغة الإنجليزية موجودة لدينا في البحث عن العلاقة بين الكهرباء والمغناطيس، وإليك نتيجة ما توصلا إليه في هذا الموضوع: إن الكهرباء والمغناطيسية هما ظاهرتان متلازمتان من الظواهر الطبيعية البالغة الأهمية بالنسبة للإنسان، وأن هاتين القوتين هما أساس معظم التكنولوجيا الحديثة. على أنني استخلصت من فحوى حديثهما ما أعتقد أنه بيت القصيد وهو أن كل حركة تحدث شحنة كهربائية، ولا يتم توليد كهرباء إلا في مجال مغناطيسي، فلم يعارضاني في ذلك. ولعل الإيقاد الذي أشار إليه كتاب الله هو من شجرة المجال المغناطيسي الشمالية والجنوبية.

البنكرياس: شجرة؟.. وما شكل هذه الشجرة؟

الرأس: لقد سألت ولدنا سعد عن شكل هذه الشجرة.. وإليك هذا الرسم الذي قدمه لنا.

البنكرياس: بارك الله فيك سيدي واصلح بالك، قد تحققت المعجزة والحمد لله، حقاً إن طلب العلم فريضة لا تقل عن الفرائض الأخرى لقوله: } قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون {.

الرأس: لقد ورد في الأثر عن النبي r: “إن الله وملائكته وأهل السماوات وأهل الأرض وحتى النملة في جحرها وحتى الحيتان في البحر ليصلون على معلم الناس الخير” (تقدم تخريجه) و”إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع” (تقدم تخريجه)، وإن كتاب الله حافل بالآيات التي تحث على الاستزادة من العلم، وكذلك الأحاديث النبوية الشريفة.

البنكرياس: يتساءل البعض عن كيفية تدارس القرآن العظيم والاستفادة من عجائبه المتجددة التي فيها تفصيل كل شيء وفيها الهدى والرحمة، وعلومنا محدودة ونسبية، والقرآن منزل بعلم الله الكلي المطلق الأزلي السرمدي.

الرأس: إن الجواب لمثل هؤلاء: أولاً أن القرآن العظيم منزل من خالق الإنسان والعالم بما توسوس به نفسه، وهو الأقرب إليه من حبل الوريد. ثانياً أنزله سبحانه بلسان عربي مبين، أي بلسان الأمة التي أتزل إليها ككل كتاب منزل يكون بلسان قوم الرسول المنزل عليه. وعليه فكيف ينزل الله القرآن العظيم أو غيره من الكتب على قوم من الأقوام ويطلب منهم أن يتفكروا فيه ويتفهموا إعجازه اللغوي، وإعجازه الذهني وإعجازه العلمي، وبكل ما في الإعجاز من معنى، وهم لا يستطيعون ذلك، ولكن الله سبحانه أمرنا بالتفكر والتدبر والتعقل والتفهم والاستنباط ليكون الإنسان وعاء للعلم وجديراً بالفهم ليتعلم ما يفيده من كتاب الله وينفعه ليعمل به، وما يضره ليتجنبه، ولا سيما أن الله قد وهبه مواهب جمة فضله بها على كثير من خلقه وسخر له ما في السماوات وما في الأرض ليكون له في ذلك مجالات ذهنية وسبحات فكرية وبحوث قيمة، ويكون إيمانه بفاطر السماوات والأرض وخالق كل شيء سبحانه على بينة وعلم وبصيرة وفهم، امتثالا لأمره سبحانه وتوجيهه وإرشاده – طمعاً في فيضه ورضوانه بان يجعله جل شأنه – ممن تنطبق عليه الآيتين 190 و 191 من سورة آل عمران: } إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ~ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار {.

البنكرياس: أشكرك سيدي عل هذا الإيضاح، ولكن هل كل الناس يستطيعون ذلك؟

الرأس: يجب ألا نحتقر أحداً، والحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها كما علمنا رسول الله r.

البنكرياس: شكراً لك.. ولكن يما تنصح محب التفكر والبحث في كتاب الله؟

الرأس: أنصحه بما أنصح به نفسي وذلك بوضع ضوابط يجب التقيد بها.

البنكرياس: وما هي هذه الضوابط؟

الرأس: أولاً أحب من كل قلبي أن يكون المفكر المتدبر لكتاب الله على جانب من الإيمان والتقوى لاستقبال فيض الله سبحانه وعلمه بتقواه امتثالاً لقوله جل شأنه: } اتقوا الله ويعلمكم الله {.

البنكرياس: أحسنت سيدي.. ولكن ألا ترى أن مثل هذا ينطبق عليه قوله سبحانه: } نور على نور {. نور العلم ونور التقوى؟

الرأس: لا شك أن التقوى نور تهيؤ واستعداد، وأن العلم نور عطاء وإمداد.

البنكرياس: إذا كان الأمر كذلك فإن قوله سبحانه في سورة الفاتحة: } إياك نعبد وإياك نستعين ~ اهدنا الصراط المستقيم.{ كذلك نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء.

الرأس: نعم.. وكيف لا وقد تقدم لك إن النور من الله سبحانه إرسال وأن الاستنارة من العبد بمثابة استقبال. وأن الراسخين في العلم وهم أصحاب العلوم الراسخة والقواعد الثابتة أولى بالعلم وأجدر بالفهم.

البنكرياس: وكيف نعرفهم يا سيدي؟

الرأس: لقد سئل رسول الله r عن “الراسخين” في العلم فقال: “من طهرت سيرته وحسنة سيرته وعف بطنه وفرجه” ((عزاه السيوطي في الدر المنثور (2/ 7) إلى ابن جرير وابن أبي حاتم الطبراني عن أنس لكن بلفظ (من برة يمينه وصدف لسانه واستقام قلبه ومن عف بطنه وفرجه كذلك من الراسخين في العلم). إسناده ضعيف انظر الحكم على الحديث في تفسير ابن أبي حاتم 2/ 73ح (126)). ولعل الآية 16 من سورة المائدة تؤيد هذا المعنى: } يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجه من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم {.

البنكرياس: لعل الرسول r قصد بذلك طهارة الوعاء وإنارته لاستقبال نور الله سبحانه بنقاء سريرة وحسن سيرة، وعفة في البطن والفرج. وحقاً إن الآية 16 من سورة المائدة تؤيد هذا المعنى.

الرأس: أكرر ما تقدم من أن النور من الله سبحانه هو إرسال، والاستجابة من عبده المؤمن التقي النير النقي – بمثابة استقبال. نور يهدي الله لنوره من يشاء.

البنكرياس: هل إن مثل هذه المثالية موجودة بين الناس والخلق كلهم خطاءون؟

الرأس: نعم ولكن خير الخطاءين التوابون. والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ويعفو سبحانه عن كثير.

البنكرياس: ألا ترى سيدي أن في قوله سبحانه: } من يشاء { يشتمل على المشيئتين… المشيئة الكلية من الله سبحانه، والمشيئة الجزئية من العبد؟

الرأس: إن مثل هذا القول أورده – في كتبه – الأستاذ عبد الحميد الخطيب.

البنكرياس: ومن هو عبد الحميد الخطيب؟

الرأس: لقد كان رجلاً فاضلاً وباحثاً مؤمناً، كرس حياته للبحث في معاني آيات كتاب الله وطباعة الكتب وتوزيعها مجاناً. وقد كان سفيراً للملكة العربية السعودية في باكستان وفي غيرها من البلدان العربية، كما كان رحمه الله من الأخوان المسلمين المتحمسين للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

البنكرياس: ولكنا لم نسمع به.

الرأس: هكذا شان من لم تكن له مدرسة وتلاميذ يحفظون علمه ويبثونه بين الناس ويعملون على نشره من بعده

البنكرياس: رحمه الله، ولا بد أن يقيض الله للعلم ناصراً ولكن ما رأيك آنت سيدي فيما يقوله الشيخ الخطيب؟

الرأس: ليس في ذلك غرابة.. وقد قال سبحانه: } وما تشاءون إلا أن يشاء الله {، ويؤيد ذلك قوله سبحانه: } ويهدي إليه من ينيب {، } ويهدي إليه من أناب {، والإنابة من العبد مشيئة جزئية تهيئه للهداية التي لا تكون إلا بمشيئة كلية لأهل التقوى والإنابة مصداقاً لقوله سبحانه: } وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها { الفتح / 26 في مقابل قوله سبحانه: } قل يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أتلزمكموها وأنتم لها كارهون { هود/28

البنكرياس: أشكرك سيدي على الإيضاح وآسفة إذا قاطعتك، مع إيماني بأن الجهاز الصالح المتصل بالنور لا بد أن يستمد النور ويشعه بالآخرين كما فهمت ذلك مما تقدم. ولنرجع الآن سيدي إلى ما بدأنا به حول نصيحتك للمفكر الباحث في كتاب الله.

الرأس: إن المؤمن المستقبل لنور الله سبحانه بتقواه لا شك، أن يكون بعيداً عن الغرض والمرض الدخيلين على الإسلام من أعدائه دخول السم في الدسم، وبعيداً عن اتباع ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة والتكلف في التأويلات تبعاً لأهوائهم وما توحيه شياطينهم، وأن يكون متوخياً الدليل من كتاب الله وسنة رسوله ما استطاع إلى ذلك سبيلا. كما أن عليه أن يحسن اللغة العربية وأن يكون ملماً بجانب مما أثر من الأقوال المتقدمة لمن سبقوه، مستأنساً برأيهم ومعتقداً أنهم في أقوالهم الخاصة رجال مجتهدون معرضون للخطأ والصواب، يؤخذ منهم ويرد عليهم على ضوء الدليل القرآني والسنة النبوية. وألا يكون متعصباً لما يظهر له كأن يعتقد انه هو الصواب وما سواه فهو خطأ، لأن آيات القرآن تشتمل على معان متعددة في الخير، وعجائبه لا تنقضي. } وفوق كل ذي علم عليم {.

البنكرياس: وما حكم ارتباط الآية القرآنية بأسباب التنزيل؟

الرأس: إذا كانت الآية تشتمل على سبب التنزيل فإنها لا تتقيد به، وكما قيل: (العبرة بعموم اللفظ لا خصوص السبب).

البنكرياس: وماذا عليه بعد ذلك؟

الرأس: يحسن بالمتفكر المتدبر أن يكون مع تقواه ذا فطرة سليمة وسجية مستقيمة، وفطنة نيرة ليستمد النور من كتاب الله سبحانه بنور الله في نفسه } نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء {

البنكرياس: على أن ليس من حقنا أن نزكي أحداً على أحد، وأنه سبحانه يزكي من يشاء من عباده ويؤتي فضله من يشاء. ولكن على المؤمن أن ينظر في جميع الأقوال، والحكمة ضالة المؤمن، وفي الحديث الشريف أيضاً: “رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره” ((الحديث رواه الترمذي/المناقب/ح (3789). مسلم/البر والصلة/ح (4754). أحمد/ح (12019)).

الرأس: أشكرك عزيزتي على هذا الاستدراك والتنبيه، ومما لا شك فيه أن القرآن العظيم فسر بعضه بعضاً، والقرآن يقول آمراً الرسول r بهذه الآية الكريمة: } قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ~ إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين { سورة ص / 88.

ويظهر من ذلك أن الرسول لا يتكلف في معاني آيات كتاب الله قبل أوان تأويلها، كما أن في القرآن الكريم عجائب كثيرة. قد لا بعلم تأويلها الرسول r ولا يكلف نفسه بمحاولة فهمها، بل يترك أمرها للأزمان المقبلة كمعجزات ذهنية وعجائب علمية مستمرة يستنبطها أولو الألباب والحجا، وأولو التبصر والتفكر – من العلوم الراسخة والقواعد الثابتة، وما يفيض الله به على عباده بما شاء من علمه سبحانه.

البنكرياس: إن الأمر في التفكير وارد، والنهي عن التكلف وارد أيضاً.. ولنا في رسول الله r أسوة حسنة، وعلينا أن نبتعد عن المظاهر والمباهاة والفخر والمراء. وعلينا أن نتوخى المعنى السليم المؤيد من كتاب الله وسنة رسوله r، لأن القرآن العظيم – كما تقدم – يفسر بعضه بعضا، وأن الرسول r نبي الله يوحى إليه سبحانه بما يشاء مصداقاً لقوله r: “أوتيت القرآن ومثله معه” ((الحديث صحيح رواه الترمذي/العلم/ح (2588). وأبو داود/السنة/ح (3988) أحمد/ح (16546). انظر مشكــاة المصابيـــــــح ح (163)) . وعندما نزلت الآية 65 من سورة الأنعام: } قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون {. قـال r: “إنها آتية ولم يأت تأويلها بعد” ((رواه أحمد/ح (16546) والترمذي/العلم/ح (2588) وأصله في البخاري/كتاب التفسير/ح (4628)). وعلينا أن نأخذ كل ما صح عن المصطفى r من قول أو فعل، وأن نعتبر ذلك كمذكرات إيضاحية وتوجيهات عملية لبعض ما جاء في كتاب الله سبحانه، ثم علينا بعد ذلك أن نفكر ملتزمين بالضوابط المتقدمة بما لم يرد فيه شيء عن المصطفى r، كما جاء في حديث رسول الله r للصحابي معاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن سائلاً إياه: بم تحكم؟ قال بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسوله. قال r: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. (رواه الترمذي/الأحكام/ح (1249). وأبو داود/الأقضية/ح (3119). أحمد ح (21000). والدارمي/المقدمة/ح (168). وضعفه الألباني مشكاة المصابيح ح (3737). وضعيف سنن أبي داود ص 354 ). فأجازه رسول الله r وحبذ اجتهاده وحمد الله على ذلك.

الرأس: إن الدليل القرآني مسلم به ولا شك، ثم ما صح عن رسول الله r فلا بد أن يكون مأخوذاً من كتاب الله.. لأن الرسول r لا ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى. علمه شديد القوى.

البنكرياس: هل ظهر لك شيء من ذلك تتكرم علي به للمثال لا للحصر؟

الرأس:

وكيف يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

أقول لك بأنه لا يوجد تعارض مطلقاً بين ما جاء في كتاب الله سبحانه، وما صح عن رسوله r.

البنكرياس: لا شك في ذلك سيدي، ولكن أرجو أن تورد لي مثالاً واحداً ليطمئن قلبي.

الرأس: لعلك متأسية بنبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام كما جاء في الآية 260 من سورة البقرة: } وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي {. وعليه فإني أقترح أن تختاري أنت الموضوع الذي تريدين تأييداً له من كتاب الله.

البنكرياس: شكراً سيدي.. فلقد جاء عن رسول الله r: الجهر في موضعه بصلاة الليل والسر في موضعه بصلاة النهار، فلو تكرمت استنباط ذلك من كتاب الله لإثبات أن أحاديث الرسول متماشية مع كتاب الله كمذكرات تفسيرية.

الرأس: لعل في الآيتين 204 – 205 من سورة الأعراف ما يفيد هذا المعنى يا عزيزتي، فإن صلاة الجماعة تتكون من إمام ومأمومين وكانت الإمامة في عهد الرسول r له عليه الصلاة والسلام. والمأمومون هم الموجودون بمعيته من الصحابة الكرام في الحضر والسفر، والسلم والحرب. ولعل الآية 204 تشمل المأمومين وذلك بقوله سبحانه: } وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون {. إذ يظهر من ذلك أن في الإنصات والاستماع من المأموم لقراءة الإمام جهراً ما يغنيه عن القراءة معه. كما أن الآية 205 تعني الإمام – وهو رسول الله r – بقولها: } واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين {.

البنكرياس: وكيف ذلك سيدي؟

الرأس: إذا تبين لنا أن موضع قراءة السر التي هي دون الجهر من القول بالغدو والآصال نهاراً. علمنا أن موضع قراءة الجهر ليلاً.

البنكرياس: ما أعظم الإيضاح في كيفية قراءة السر.. فمع كونها قراءة في النفس إلا أنها دون الجهر. ولكن ما رأي سيدي في قوله سبحانه في ختام الآية: } ولا تكن من الغافلين {.

الرأس: إن قراءة الجهر غالباً ما يكون الإنسان حاضراً فيها، وقد تغلب الغفلة والسرحان على القارئ إذا كانت القراءة سرية.

البنكرياس: وهل يستطيع كل مسلم أن يصلي ولا يغفل؟

الرأس: إن الأمر بعدم الغفلة موجه إلى رسول الله r.

البنكرياس: وهل الأمر الموجه إلى رسول الله r لا يشمل غير المصلين؟.

الرأس: يشمل غيره من المصلين تأسياً برسول الله واقتداء ً به r، ولكن مع شيء من التسامح فيما لو غفل المصلي عن بعض صلاته ساهياً، وكلنا كذلك مهما حاولنا، إنما يكون حضور الذهن واجباً على الرسول r في صلاة السر والجهر معاً.

البنكرياس: وما دليلك على ذلك سيدي؟

الرأس: يستطيع المرء أن يأخذ الدليل من الأثر الوارد بهذا المعنى من رسول الله r: “للمرء من صلاته ما عقل” (الحديث لا يثبت عن النبي r. انظر تخريــــج العراقي للحديث في إحياء علوم الـدين 1 /213 ).

البنكرياس: وما دليلك على أن الأمر الموجه إلى رسول الله r يكون مفروضاً عليه وحده، ولباقي المسلمين أن يتأسوا به r، وان من يكتفي منهم بأداء الفروض لا وزر عليه؟

الرأس: إن مثل ذلك صلاة الليل ومواصلة الصوم وغير ذلك كالاستعاذة مثالاً، فقد وردت جميع آياتها في كتاب الله موجهة إلى رسول الله r، لذلك فإنها واجبة على الرسول ومستحبة لغيره من كافة المؤمنين. وهذا للمثال لا للحصر يا عزيزتي، فإذا كان لديك أي سؤال آخر بهذا الخصوص فهاته لعل الله يوفقنا في الإجابة عليه.

البنكرياس: إنني مقتنعة بما تفضلت به، ولكن بما أن مثل هذا البحث جديد، فإنه يحتاج إلى أسئلة كثيرة قد لا أكون مستعدة لها الآن.

الرأس: لك أن تسألي متى تشائين.

البنكرياس: أشكرك على هذا الإمهال ولكني لا آمن مكرك.. فلا بد لي من الإدلاء بأي سؤال آخر الآن.

الرأس: هات ما عندك.

البنكرياس: ما رأيك سيدي فيما ورد عن المصطفى r: “قول لا أدري نصف العلم”؟

الرأس: إن قول لا أدري – وإن كان ظاهر الجملة النفي، إلا أنها شجاعة إيجابية صادقة يعترف قائلها أنه لا يدري. والعلم معرفة يسبقها عدم معرفة. فالذي يعترف بأنه لا يدري فإنه يحاول أن يدري، من كان هذا شأنه.. فإنه هو الذي يريد أن يعرف ويحاول المزيد من المعرفة.أما من يدعي أنه يعرف كل شيء ويصعب عليه قول “لا أدري” كما يصعب عليه سؤال أهل الذكر والاستزادة من العلم – كي لا يظن أنه لا يعرف شيئاً – فهو الجاهل الذي لا يعرف شيئاً ولا يريد أن يعرف شيئاً. والخطر كل الخطر يأتي من مثله لا سيما إذا كان ذا حنجرة قوية تؤثر في الجماهير الغوغائية – يتعصب للقديم لمجرد قدمه دون أتارة من علم أو تفكير– أو فهم يؤيده دليل قاطع، فيعطل الفكر ويجعل القرآن وراء الظهر، ويلتف حوله الجهلة الغوغاء وذوو الأغراض والأمراض، حمى الله المسلمين من كل إمعة سلبية لا تهمه إلا المظاهر وكثرة الأتباع. وأن يسمع له ويطاع.

البنكرياس: وما حكم من يقول لا أدري وهو يدري بالدليل القاطع؟

الرأس: لعل هذا هو كاتم العلم الذي توعده الله سبحانه في كثير من آيات كتابه الكريم. على أن المؤمن كثيراً ما يكون بين خوفين: خوف من أن يقول شيئاً لا يريده الله، أو أن يسكت عن شيء يريده الله.

البنكرياس: لقد فهمت مما تقدم أن التعادل يؤول إلى الصفر، والمؤمن المتأرجح لا بد أن يكون ضعيفاً.

الرأس: إن المشكلة الكبيرة بين الصفوف والجماعات هي أن الإيجابي كثيراً فيكون مسئولاً ومتهماً من الأكثرية السلبية في المجتمعات، وذلك على عكس السلبي الذي غالباً ما يسيطر على الجماهير بسلبيته مما يضيع على هذه المجتمعات خيراً كثيراً.

البنكرياس: لقد ورد في الحديث الشريف: “أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف” ((الحديث صحيح رواه مسلم / القدر/ح (4816). وابن ماجه/ المقدمة/ح (76) وأحمد/ح (8436)). ولعل المؤمن القوي هو الذي ينطبق عليه قول الله سبحانه وتعالى في الآية 54 من سورة المائدة: } يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم {.

الرأس: صحيح يا عزيزتي أن المؤمن الصادق هو الذي تنطبق عليه هذه الآية، وإلا فإن إيمانه لا يخلو من شائبة ردة، سواء كان إيمانه قوياً أو ضعيفاً. على أن للأثر الوارد تكملة: وهي”وفي كل خير”، بما يفيد بأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وأن في المؤمن الضعيف خيراً أيضا َ، وأن الذي بينهما هو مجرد تفاضل. وان الحياء كله خير، وإن الحساب للعواقب من ردود الفعل الضارة مطلوب أيضاً، والبعد عن المجادلات ترغب به السنة المطهرة كما تحذر من الجدل، وأن التعادل والتردد قد يكونان بداية للدخول في الإيمان الصحيح وهذه أمور قد تكون كلها من صفات المؤمن الضعيف الخير.

البنكرياس: لعل دور نبي الله هارون مع السامري وعجله يمثل دور المؤمن الضعيف، ودور نبي الله موسى عند عودته من لقاء ربه يمثل دور القوة في الإيمان وذلك فيما يظهر من الآيات 92-94 من سورة طه: } قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ~ ألا تتبعن أفعصيت أمري ~ قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيـل ولم ترقب قولي{.

الرأس: وقد ينقلب ما يظن أنه ضعف كالاتزان والتروي إلى قوة أمام الأمور الجسام كما حصل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه عندما عظم الخطب وتوالت المصائب على المسلمين جملة واحدة بعد وفاة الرسول r واختلاف المسلمين على من سيتولى الخلافة من بعده، وردة بعض القبائل العربية، ومنع الزكاة من بعض آخر وادعاء النبوة من مسيلمة، وسجاح في اليمامة، والأسود العنسي في اليمن، وعبث اليهود وتحريك نار الفتنة وتنبه دولتي الفرس والروم وتحركهم ليقضوا على هذه الحركة الجديدة في مهدها قبل أن تمد عروشهم.

وقد كان عمر بن الخطاب آنذاك في ذهول وارتباك، وكان الصديق في رباطة جأش فائقة فيصعد المنبر قائلا: أيها الناس. من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات: ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم يتلو هذه الآية الكريمة: } وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين {.

البنكرياس: نعم.. وقد كان تأثير سماع الآية القرآنية على عمر كبيراً، فغير من موقفه وبادر بمبايعة أبي بكر الصديق حال نزوله المنبر مستغلاً تأثر الناس الكبير من هذا الخطاب العظيم مما قضى على الخلاف فبايعه الجميع. وهناك انتفاضة أخرى لأبي بكر رضي الله عنه تتمثل في رفضه تبديل قائده بقائد أكبر منه سناً.. قائلاً لعمر: ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب، والله لو علمت أن السباع تجر برجلي إن لم أرده ما رددته.. ولا حللت راية عقدها رسول الله، وقد أحدث ذلك رعباً في قلوب المشركين والمرتدين قائلين في أنفسهم: لو كان المسلمون ضعافاً مختلفين لما جهزوا جيشاً لقتال الروم.

الرأس: وكذلك الأمر عندما أراد أبو بكر أن يعقد أحد عشر لواء لقتال المرتدين ومانعي الزكاة ومدعي النبوة قائلاً لعمر: رجوت نصرك فجئتني بخذلانك، أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام؟، والله لو منعوني عناقاً أو عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه حتى يؤدوه لي. ولم تمر فترة الخلافة التي لم تزد عن ستة وعشرين شهراً، حتى كون من الجزيرة العربية دولة إسلامية واحدة تدك جيوشها معاقل أكبر إمبراطوريتين في العالم: الفرس والروم. فبالله عليك.. هل تجدين مثيلاً لهذا العمل من تلميذ رسول الله r وصاحبه في مثل هذه الفترة اليسيرة وفي مثل هذه الساعات العصيبة؟

البنكرياس: إنه حدث عظيم، وكلما ساد الإيمان والاستقامة للقيادة الصالحة والجندية المطيعة، تم النصر مصداقاً لقوله سبحانه: } إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين ~ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز {. سورة المجادلة/ 20 – 21، وقوله سبحانه: } إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد { سورة غافر/51

الرأس: لقد تكرر في مجلة (الفتح) التي كان يصدرها محب الدين الخطيب في القاهرة: (المسلمون إلى خير ولكن الضعف في القيادة). هو صحيح يا عزيزتي، صلاح الآباء يدرك الأبناء (وكيفما تكونوا يول عليكم).

البنكرياس: لعلك سيدي تقصد أن القائد المطيع لله سبحانه يحتاج إلى جندي مطيع له ما أطاع الله.

الرأس: نعم.. يقول المولى سبحانه في الآية 59 من سورة النساء: } يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى لله والرسول.. {.

البنكرياس: وكيف نرد ذلك إلى الله سبحانه؟

الرأس: نرد الأمر إلى كتاب الله وسنة رسوله، لأن الكتاب والسنة ملزمان للجندية والقيادة معاً. (ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وأن الجندي الناتئ عن الصف يجب تأديبه حتى يعود منتظماً في الصف.

البنكرياس: وهل لديك مثال لذلك سيدي؟

الرأس: القيادة لا تختلف عن الإمامة في الصلاة، إذ ينتظم المصلون في صفوف مستقيمة متابعين الإمام في قيامه وركوعه وسجوده ما لم يخطئ بزيادة أو نقصان لفرض أو واجب، فعندئذ ينبه الإمام مثلاً بقول مقدمة المأمومين: سبحان الله. على الإمام عند ذلك أن يتم ما نقص.

البنكرياس: وهل يأخذ بقول كل قائل؟

الرأس: لا.. لأنه قد يكون القائل دسيسة ً – لإحداث خلل في الصفوف وتمزيق الجماعات.

البنكرياس: من الذي يؤخذ بقوله إذن؟

الرأس: يؤخذ بأقوال أولى الأحلام والحجا الذين يلون الإمام في صلاته كما ورد عن المصطفى r: “ليلني أولو الأحلام والحجا” ((الحديث صحيح رواه مسلم/الصلاة /ح (654). والترمذي/ الصلاة/ح (211). والنسائي/ الإمامة/ح (798))، بل هم الذين يبتدرون بتنبيه بقولهم: سبحان الله.

البنكرياس: إن في هذا الحديث تأييداً لما تقدم من أن الإمامة في الصلاة فيها مثل طيب للقيادة والجندية معاً، على أن الذين يلون الرسول في وسط الصف الأول هم أقلية بالنسبة لمجموع المصلين.

الرأس: إنهم وإن كانوا أقلية، إلا أنهم كما وصفهم الرسول r – أولي الأحلام والحجا، وهم – على أقليتهم جديرون بأن يمثلوا الأمة جمعاء خلف الأمام العادل.

البنكرياس: ولكن الديمقراطيات التي ينادي بها الناس وتتباهى بها الأمم هي غير ذلك.

الرأس: إن الديمقراطية الصحيحة هي بمثابة الشورى في الإسلام، إذ تنتخب الأمة من يمثلها ممن تثق بهم وتطمئن لإيمانهم وأمانتهم، وتقدمهم لمجلس الشورى كممثلين للشعب. وتكون الجماعة الفائزة بأكثرية المقاعد هي الجماعة الإيجابية الحاكمة، وقد تقوم الأقليات بموقف المعارضة كلما اقتضى الأمر ذلك، على أن تكون بقصد البناء لا الهدم وليست لمجرد المعارضة.

البنكرياس: إذا كان قسم من أعضاء المجلس يمثل الإيجاب.. والقسم الآخر يمثل السلب، أفلا ترى سيدي أن الموقف يتطلب جانباً ثالثاً يمثل الحياد الإيجابي كمرجع لخير الرأيين وكحكم عدل له القول الفصل؟ فإذا كان الأمر كذلك.. فمن الذي يمثل الجانب الثالث في رأيك؟

الرأس: على الجماعة المنتخبة بتعاون مع الدولة القائمة أن تختار فريقاً من ذوي الأحلام والفضل يكون لهم موقف وسط والمصلحة الخاصة لجميع الأفراد بالعدل والمساواة والخير العام والبناء التام والحكمة أينما وجدت يكون هذا الفريق بمثابة هيئة استشارية عليا يرجع إليها عند تعادل الإيجاب والسلب، لدراسة وجهتي النظر وتقييمها وتقريب بينها بعقل سليم ومنطق قويم، بعيد عن التحيز والأهواء. وقد يكون ما يسمى بمجلس الشيوخ مثلاً قريباً من ذلك (وهنا لابد من التنويه عنه أن مصر أخذت بذلك بحزب وسط أسمته باسم الحزب الوطني الديمقراطي وأن بريطانيا العظمى في طريقها إلى ذلك).

البنكرياس: إذا خلصت النوايا وأحسن الاختيار بدون تحيز مغرض يكون ذلك قريباً من الشورى الإسلامية. على أنه لا بد للأمة من هيمنة رئيس محايد صادق، عادل إيجابي كلما اقتضى الموقف ذلك، ومن حوله رجال من ذوي الأحلام والحجا يشاورهم في الأمر وهم بدورهم يقومون بتقديم النصيحة له ويشاركونه في تحمل المسئولية. فإذا استأنس بآراء هذه المجموعة واستخلص منها رأياً – عزم عليه وأعلنه عليهم ليأخذ بعين الاعتبار كل رأي سديد وقول رشيد تقدم به أحد من الجماعة، وكذا رأي كل معترض يبدي أسباباً وجيهة لاعتراضه. أما إذا كان اعتراض المعترض لغرض في نفسه أو بقصد الظهور أمام الناس، فلا يكون لمثله إلا الطرد من وسط هذه المجموعة الطيبة كما طرد الشيطان من الملأ الأعلى عندما تعالى عن السجود لآدم قائلاً: } أأسجد لمن خلقت طيناً {، وكما حكى عنه كتاب الله في موضع آخر: } أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين {. هذا هو حكم الله على كل متعال بعنصره أو لأي غرض أو مرض.

الرأس: شكراً يا عزيزتي، لعلك تتأولين أمره سبحانه لرسوله r بالعزم بعد الشورى في هذه الآية الكريمة: } وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله {.

البنكرياس: نعم، هذا ما فهمته منك واتفقنا عليه، ولكن ما رأيك سيدي في الديمقراطية وطريق الانتخاب فيها؟

الرأس: إذا روعي فيها الصدق والأمانة من المنتخب والمنتخب، وبعدت عن التزاحم والمزايدات والتسابق والرشوات وساد الوضع عقيدة سليمة تؤمن بالله سبحانه واليوم الآخر بحيث يجعل الله أمامه كل من المنتخب والمنتخب في كل تصرف يتصرفانه، وكانت الإمامة صالحة تحكم بالعدل وتصدع بالحق، فهذا هو حكم الإسلام في الصلاة وفي الحكم وفي الأمر كله.

البنكرياس: ولكن إذا كانت المزايدات موجودة والرشوات في مختلف الطرق ماشية، والتسابق في الدعايات قائم؟

الرأس: إذا كان الأمر كذلك فإنه مخالف لتعاليم الإسلام ولا شك؟

البنكرياس: إنني سمعت بحديث معناه: “إننا لا نعطي هذا الأمر من يريده” (الحديث بلفظ: “لا نستعمل على عملنا من أراده” وهو صحيح رواه البخاري ومسلم).

الرأس: صحيح .. وقد أثر عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: كفى آل الخطاب أن يحاسب واحد منهم عن الخلافة وأن الحسن بن علي قد تنازل عن الخلافة بعد وفاة والده الإمام علي حقناً لدماء المسلمين. وعندما ولى عمر بن الخطاب أبا عبيدة على جيوش الشام مكان خالد بن الوليد قبل خالد ذلك وقاتل جندياً قائلا: “إنني أقاتل من أجل إعلاء كلمة الله لا من أجل المنصب”.

البنكرياس: الحق أن هؤلاء الثلاثة يعتبرون مثلاً طيباً يقتدى به في نكران الذات في سبيل الحق في صدر الإسلام.

الرأس: حقاً ذلك يا عزيزتي.

البنكرياس: ولكن ألا ترى أن المنتصر في الانتخابات في بعض البلاد يشعر وكأنه منتصر في انقلاب عسكري ما دام يستعمل المال والسلاح وكل وسيلة توصله إلى الكرسي؟

الرأس: ذلك صحيح يا عزيزتي.

البنكرياس: إن العالم اليوم ينادي كله بمثل هذه الديمقراطيات الجوفاء.

الرأس: ولماذا تعنينها بالجوفاء؟

البنكرياس: لأنها تقوم على مجرد أكثرية الأصوات دون تمييز، وأنه لم يأت ذكر الأكثريات بخير في القرآن الكريم بل الخير للأقليات التي تمثل القمة بالنسبة للقاعدة.

الرأس: ما شاء الله.. ولكنك تريدين بناء المجموعة بناء هرمياً، والحقيقة أن مثل هذا البناء يكون أقوم بناء وأدومه. وهل لك أن تتكرمي ببعض آيات من كتاب الله في الأكثريات والأقليات؟

البنكرياس: نعم يا سيدي.. لقد جاء في هذا المعنى كثير كقوله سبحانه: } ولكن أكثر الناس لا يشكرون {، } ولكن أكثر الناس لا يعلمون {، } ولكن أكثر الناس لا يؤمنون {، } فأبى أكثر الناس إلا كفورا {، } وقد ضل قبلهم أكثر الأولين {، } ولكن أكثركم للحق كارهون {، } ولكن أكثرهم لا يؤمنون {، } منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون {، } وأكثرهم لا يعقلون { وذلك في مقابل قوله سبحانه: } وقليل من عبادي الشكور {، } وما أمن معه إلا قليل{، } إلا الذين آمنـوا وعملـوا الصالحات وقليل ما هم {، } فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم{، } قليلاً ما تذكرون {.

الرأس: أحسنت.. وإن معك حقاً في مثل هذا النعت لأن الديمقراطيات القائمة على مجرد أكثرية الأصوات.. لا شك أنها جوفاء خاوية ولا سيما إذا كانت الأصوات تباع وتشترى.

البنكرياس: أشكرك سيدي، وإنني أكرر دائماً أني تلميذتك وأعتز برضاك عني. وأن الديمقراطية اليوم رغم ما لها وما عليها، فإن العالم يتغنى بها، وإذا كان العالم يلتقي عليها في الاسم فهل يلتقي في التنفيذ؟

الرأس: إن جوابي على الجانب الأول من سؤالك هو أنه إذا كان العالم يتغنى بالديمقراطية عشقاً لها وحباً فيها فلا يستبعد أن يكون الكثير منها شبيهاً يتغنى قيس في ليلاه وازدياده لها شغفاً وحباً كلما بعدت عنه. أما جوابي على الجانب الثاني.. فأقول إن الالتقاء في التسمية وارد.. إلا أنه في التنفيذ غير وارد.

البنكرياس: ألا ترى سيدي أن الدكتاتورية العادلة هي أولى لإصلاح العالم وتوجيهه الوجه السليمة؟

الرأس: إن الإنسان معرض للخطأ والصواب والهدى والضلال، والغضب والرضى، ولذا لا يستطيع المرء أن يضفي على الدكتاتور – كفرد- صفة العدل والاعتدال في سلوكه بكل أوقاته وفي كل تصرفاته. ولكل من الدكتاتورية والديمقراطية محاسن ومساوئ وفقاً لإخلاص وظروف الشعوب وعصورها التي تطبق فيها هذه الأنظمة. على أن التشريع الرباني محاسن كله في كل الظروف وكل المناسبات، فطوبى لمن يوفق للتطبيق الحسن، وطوبى لمن يحمل عقيدة سليمة تؤمن بالله واليوم الآخر، ويعمل الصالحات – قائداً مصلحاً وجندياً مطيعاً. وما اعظم سورة قرآنية نزلت في هذا المعنى ألا وهي سورة العصر: } بسم الله الرحمن الرحيم ~ والعصر ~ إن الإنسان لفي خسر ~ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر {.

البنكرياس: سيدي.. لقد ذكرت منذ فترة ليست ببعيدة موقف أبي بكر الصديق في أعظم محنة مرت بالإسلام، وأن المحن التي تمر بنا اليوم ليست بذلك الحجم، مع أن اليوم مطلعون على تاريخ سلفنا بما هو مسطر في كتب كثيرة بين أيدينا، كما يتكرر على مسامعنا في خطب الجمع والأعياد والمناسبات الأخرى وما يتردد في الإذاعات المسموعة والمرئية , وأن القرآن الذي أوحى الله به إلى خاتم رسله r بين أيدينا وهو فوق ذلك كله. فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا نسود به كما ساد الأسلاف لا سيما ونحن أكثر عدداً وأموالاً؟

الرأس: إن الإسلام لم يسد وينتشر بالأعداد والأموال… ولكن بالإيمان والتضحية وتطبيق حدود الله كما أمرنا سبحانه في كثير من آيات كتابه الكريم، فانطبق علينا قوله سبحانه: } إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين { كما انطبقت على الأسلاف الكرام الآية التي بعدها: } كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز {.. أو أن إيماننا مشوب بردة لقوله سبحانه } يا أيها الذين أمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم {. المائدة / 54

البنكرياس: لعل كل ذلك وارد سيدي.. فهل لك أن تتفضل بتحديد الصفات التي تجعل الإنسان بعيداً عن الردة لكي نتحاشاها ونكون القوم الموعود بالإتيان بهم على أنقاض الذين لم يتقيدوا بها ليحصل الفوز للمؤمن غير المرتد بالدارين معاً.

الرأس: إن الصفات واضحة في الآية المتقدمة وهي أن يكون حب المؤمن لله وحبه للآخرين فيه سبحانه وأن يكون جديراً بالحب منه جل ّ شأنه، وأن يكون خافض الجناح لأخيه المؤمن، عزيزاً على عدوه الكافر، مجاهداً في سبيل الله ولا تأخذه في الحق لومة لائم.

البنكرياس: فهل آن الأوان ننتظر وعد الله سبحانه بأن يأتي بالقوم الذين وعد بهم؟

الرأس: } إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم {، } وإن تتولوا يستبدل قوما ُ غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم {. وأن اليهود الذين كتب الله عليهم الذلة والمسكنة والتفرقة في الأرض هم أقل الأمم عدداً – يحتلون اليوم القبلة الأولى والحرم الثالث المقدس على مرأى ومسمع من مئات الملايين من المسلمين.

البنكرياس:

لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس

الرأس: لقد أخبرنا سبحانه بأن الذلة مكتوبة على اليهود إلا بحبل من الله وحبل من الناس.

البنكرياس: الحبلان معاً؟

الرأس: نعم، هكذا يظهر من الآية الكريمة: } ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس.. {، ولا بد من أن الذلة تعود عليهم بمجرد بتر أحد الحبلين.

البنكرياس: هل تتكرم سيدي ببيان هذين الحبلين؟

الرأس: لعل الأول هو الارتباط بحبل من الله، ولعل تسمية دولتهم بدولة إسرائيل – الذي هو نبي الله يعقوب ابن نبيه إسحاق بن إبراهيم عليه السلام هو حبل ولا شك، والحبل الثاني هو من الناس.

البنكرياس: نعم.. ولكن يبدو أنه لم يبق معهم من الناس إلا الولايات المتحدة الأمريكية، وإني أرى أن كنانة الله في أرضه التي أنقذت المنطقة من التتار في عين جالوت، واستعادت القدس بموقعة حطين. وعبرت خط بارليف.. ستقوم بإتمام ما بدأته مما يحقق وعد الله سبحانه في آيات كتابه الكريم.

الرأس: صحيح ذلك، وستنجح كنانة الله في هذه المهمة التي أخذتها على عاتقها سابقاً ولاحقاً بإذن الله.

البنكرياس: لقد جاء في الآيتين 4- 5 من سورة الإسراء: } وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً ~ فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا { إلى قوله سبحانه في الآية الثامنة: } وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا {.

الرأس: نعم، ولا شك أن وعد الله حق وقوله الصدق لا إله إلا هو.

البنكرياس: لقد تقدم في محاورتنا أن المسلم مأمور بنشر الدعوة والدفاع عنها ولا سيما أن مجال نشر الدعوة قد أصبح مفتوحاً في العالم أجمع.

الرأس: عسى الله سبحانه أن يعيد لنا مكانتنا الأولى ألا وهي المكانة الوسط الشهيدة على الناس برسالتها الخالدة الحقة، الوسط في المكان والمكانة، وأن يجعلنا سبحانه جديرين بنشر دعوة الحق بالحكمة والموعظة الحسنة ولا سيما أن الكثير من البلاد في مختلف بقاع العالم قد عرفت فوائد التعاليم الإسلامية بالنسبة للأفراد والمجتمعات والأمم، ففتحت صدرها للدعاة المسلمين مرحبة بهم وخاصة أن الناس في الغالب قد سئموا من الإلحاد وأخذوا يحكمون العقل والعلم. بعد أن تبينوا أن الدين الذي يتماشى مع العقل والعلم هو الإسلام، أو أن العقل والعلم هما اللذان يتماشيان مع التعاليم الإسلامية.

البنكرياس: إذا كان الأمر كذلك، ألا ترى سيدي أن نشر الدعوة يحتاج إلى دعاة مؤمنين على جانب من الإيمان والخلق الإسلامي الكريم، مطبقين ما يدعون إليه أنفسهم أولاً ليكونوا مثالاً للدعوة التي يدعون إليها.. متحابين في الله، مجاهدين في سبيله وفي سبيل إعلاء كلمته سبحانه.

الرأس: لا شك في ذلك يا عزيزتي.. إذ لو جاء للدعوة في بلاد العالم أناس يميلون للشغب والجدل، ويحرضون أهل البلاد على القتال كما يفعل بعض الجهلة.. لضاعت الدعوة وهلك الدعاة، إذ أن الدعاة عادة ما يكونون أفراداً وأقليات أمام الدول صاحبة السلطان، فلا يمكنهم استعمال القوة باسم الجهاد، ولا سيما أن استعمال القوة يضر الدعوة ولا ينفعها. وقد كان رسول الله ينتظر فترة قبل البدء بالقتال لعله يسمع آذاناً فيمتنع عن القتال.

البنكرياس: إن الجهاد في سبيل الله هو بكل طريق يوصل الدعوة إلى الناس كافة ولا يلجأ إلى الحرب إلا عند الاضطرار للدفاع عن الحق، وهذا في حالة القدرة وكانت المبادرة بيدنا، ولكن ماذا يكون الأمر لو لم نكن نملك المبادرة وابتلينا باعتداء ممن لا يقدر المثل والقيم الدينية؟

الرأس: إن الجواب يفرض نفسه وهو أن الدفاع عن النفس والعرض والعقيدة جهاد مقدس سنة كونية لكل كائن. ولقد قال سبحانه: } ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز {.

البنكرياس: لعل الله سبحانه يطلب من جميع المؤمنين أن يتحدوا ويكونوا يداً واحدة أمام الملاحدة الذين لا يفرقون في الهدم بين دور العبادة، سواء كانت صوامع أو بيعاً أو صلوات أو مساجد. وهي أماكن العبادة لجميع أصحاب الأديان السماوية. حقاً سيدي.. ولكأن هذه الآية قد أنزلت هذا اليوم، وأن عجائب القرآن العظيم تتجدد تجدد الحدثين – الليل والنهار.

الرأس: هذا هو المطلوب اليوم بالذات، لأن الصوامع والبيع والصلوات والمساجد جميعها في خطر عظيم.

البنكرياس: أشكرك سيدي.. إن الجهاد في سبيل الله قد تكرر في كتاب الله وسنة رسوله، كما هو مكتوب في جميع كتب الله المتقدمة، وقد أوجبه سبحانه على الفرد المسلم والأمة المسلمة. فكيف تكون تأدية مثل هذه الفريضة في الظروف العادية؟

الرأس: إن أمامنا حدثين كبيرين في صدر الإسلام يجب أن نتخذهما قاعدة لنا ونواجه كل حادث جديد بما نراه أنسب وأصلح على ضوء ذلك.

البنكرياس: وما هما هذان الحدثان سيدي؟

الرأس: غزوة بدر الكبرى التي أسماها القرآن بيوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، الغزوة التي فرق الله فيها بين الحق والباطل ونصر عبده وأعز جنده سبحانه. أما الحدث الثاني فهو صلح الحديبية الذي كانت مثوبته فتح مكة وانتصار الحق وزهق الباطل كقوله سبحانه: } وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا {.

البنكرياس: أشكرك سيدي.. حقاً إن الإسلام لا يحب الاعتداء، ولكنه يوجب الدفاع، وأن على المسلم أن يجعل هذين الحدثين العظيمين – واقعة بدر الكبرى، وصلح الحديبية – أمام عينيه في كل مناسبة، وألا يهتم للجلبة والضجيج من العدو، وعليه أن يقابله بالصمت عملاً بقوله r: “فإن أجلبوا وضجوا فعليكم بالصمت” ((الحديث رواه الدارمي/السير/ح (2333)). وإن من واجب الدعاة أن تكون دعوتهم إلى الله على بصيرة وعلم ومنطق وفهم، بالحكمة والموعظة الحسنة، وألا يرعبوا الأفراد والدول بحمل السلاح بدلاً من السلام، مبتعدين عن الجلبة والضجيج أيضاً.

الرأس: آمين اللهم آمين.. ونسأله سبحانه أن يجعلنا جديرين بوعده الحق في الآية 55 من سورة النور: } وعد الله الذي أمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون {. وألا يجعلنا سبحانه من الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فينطبق علينا آخر الآية لا سمح الله. والكفر في آخر الآية هو كفر فسوق والعياذ بالله.

البنكرياس: حقاً سيدي، إن رسالة الله هي الرسالة الوسط مصداقا ُ لقوله سبحانه: } وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا { البقرة / 143.

الرأس: نعم.. إن الرسالات ختمت برسالة محمد r الرسالة الوسط الخالدة، وعلى أتباعه أن يواصلوا الرسالة ويتموا المسيرة على بصيرة مصداقا ُ لقوله عز وجل مخاطباً رسوله r: } قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين { يوسف / 108

 البنكرياس: حقاً سيدي إن المسئولية في مواصلة الدعوة واقعة على متبعي محمد إلى قيام الساعة

الرأس: لا شك في ذلك يا عزيزتي لأن الله سبحانه لا يعذب أحداً إلا بعد محاكمته وقيام الحجة عليه مصداقاً لقوله سبحانه: } وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا {. الإسراء / 15.

البنكرياس: بل لن يدخل النار أحد حتى تقام عليه الحجة مصداقاً لقوله عز وجل في سورة البينة:

} بسم الله الرحمن الرحيم~ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ~ رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة ~ فيها كتب قيمة {. والذي يظهر من ذلك أن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين لن ينفكوا من رحمة الله حتى تأتيهم البينة، رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة.

الرأس: إن كل قضية لا بد وأن تكون بين طرفين، و لا بد من قاض يحكم بين هذين الطرفين فيكافئ المحسن بالحسنى ويجازي المسيء الجزاء الوفاق، ويعفو سبحانه عن كثير.

البنكرياس: لا شك في ذلك سيدي، ولا شك أن الطرف الأول هم الرسل، والطرف الثاني هم المرسل إليهم وأن الحكم لله الواحد القهار، له أن يعفو ويسامح، وله سبحانه أن يعذب ويسجن المسيء سجناً خالداً في نار جهنم مصداقاً لقوله جلّ شأنه: } فلتسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين {، وقوله سبحانه: } وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون {. ولعل إشراك قوم محمد بالذكر والمسئولية يعني أن المسئولية على من يجيد اللغة العربية اكبر من غيره من المسلمين الذين لا يتكلمون العربية.

الرأس: لا شك أن السجن هو النار التي وقودها الناس والحجارة، وذلك بعد قيام الحجة مصداقاً لقوله سبحانه: } تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير ~ قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير ~ وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير~ فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير ~ إن الذين يخشون ربهم بالغيب لعم مغفرة وأجر كبير { سورة الملك / 8 – 12

البنكرياس: لقد كان في اعترافهم بتبليغ الرسل للرسالة وتأدية الأمانة، واعترافهم بعصيانهم للرسل وتكذيبهم لهم أبلغ حجة، وكذا اعترافهم بأنهم لو استعملوا أسماعهم وميزوا ما يقوله الرسول بعقولهم لآمنوا ولما كانت النار المتميزة من الغيظ مثوى لهم.

الرأس: حقاً إنه اعتراف كامل وحجة قائمة وجزاء وفاق، والله سبحانه فعال لما يريد. أما الذين يخشون ربهم بالغيب فإن لهم مغفرة وأجراً كبيراً. كما يظهر من الآية 12 من سورة الملك.

البنكرياس: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستمرار الدعوة إلى الله على بصيرة من واجب كل مسلم فإن استجاب المدعو فاز الاثنان في الأجر معاً وإلا فينجو الداعي من المسئولية، ويخسر المدعو غير المستجيب للدعوة الحقة إذا بلغته كما ينبغي.

مصداقاً لقوله سبحانه: ] وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون ~ فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون [ الأعراف 164 – 165. وقوله سبحانه: ] فولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين [ هود / 116.

الرأس: ما شاء الله.. أراك في تقدم مستمر بارك الله فيك.

البنكرياس: سيدي.. لقد فهمت أن حمل الأمانة التي أبت وأشفقت من حملها السماوات والأرض عبء عظيم جداً، وقد حملها الإنسان مع تقصيره في القيام بأدائها ظلماً وجهلاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإن تبليغ الدعوة وإقامة الحجة على الكافرين من واجب كل مؤمن تأسياً برسول الله r وإلا قامت عليه هو الحجة. ولكن ما هو رأي سيدي في سورة ” الكافرون ” التي ختمها الله سبحانه بقوله: } لكم دينكم ولي دين { – السورة التي أعتقد أن فيها تأييداً لهذا المعنى؟

الرأس: أشكرك عزيزتي على هذا السؤال الذي جاء في محله ومناسبته، فقد ورد عن ابن عمر: قال رسول الله r:” قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وسورة الكافرون تعدل ربع القرآن” ((الحديث رواه الترمذي / فضائل القرآن / ح (2819). وأول الحديث في البخاري / فضائل القرآن /ح (4627). ومسلم / صلاة المسافرين / ح (1344)). وكان يقرأ بهما في ركعتي الفجر. على أنه كثيراً ما يأتي الجواب على مثل هذا السؤال على هذه السورة بأنها منسوخة بآية الجهاد، ولعل في هذا الجواب تخلصاً وتملصاً من التفكير وخروجاً من المأزق الذي يقع فيه الموجه إليه السؤال عند عجزه عن الإجابة بسبب بعض المفاهيم غير المكتملة.

البنكرياس (مقاطعة): أنا التي أشكرك سيدي لو تفضلت علي بما يظهر لك من هذه السورة التي حيرت الكثيرين. إذ كيف بسورة تعدل ربع القرآن العظيم.. وكثيراً ما قرنها الرسول r بسورة الإخلاص في صلاته – تكون معانيها منسوخة؟

الرأس: لا بد لي من عمل معادلة لعلى أستطيع بها بيان أهمية هذه السورة، وأنها بحق تعدل ربع القرآن العظيم ولا تكون منسوخة، وسوف أتلوها أولاً: } بسم الله الرحمن الرحيم ~ قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ~ ولا أنتم عابدون ما أعبد ~ ولا أنا عابد ما عبدتم ~ ولا أنتم عابدون ما أعبد ~ لكم دينكم ولي دين {. وإليك المعادلة: } قل يا أيها الكافرون { بعبادتي حالياً، يقابلها ] لا أعبد ما تعبدون [، ] ولا أنتم عابدون ما أعبد [، أي الذين سوف لا تؤمنون بعبادتي مستقبلاً وستموتون على كفركم، يقابلها } ولا أنا عابد ما عبدتم { أي أن الله سبحانه سوف يتوفاني على عبادتي له ويحفظني من الميل لعبادتكم أو أي عبادة تخالف ما أنزل علي من ربي.

البنكرياس (مقاطعة ): إذا كان معنى الآية الثالثة أنهم سوف لا يؤمنون برسالة محمد مستقبلاً حتى الموت، فما معنى تكرار } ولا أنتم عابدون ما أعبد { للمرة الثانية في الآية الخامسة؟

الرأس: إنك بحق بضعة من هذا الإنسان المخلوق من عجل.. ولكن بارك الله فيك.. إنه استعجال في محله، وإن السر الأعظم في الآيتين الأخيرتين وذلك: } ولا أنتم عابدون ما أعبد { أي أن الأمر سوف لا يقف عند موتكم بل سيتعداه، وذلك بأنكم ستتحملون وزر جميع من كفر بالرسالة الحقة الخالدة – بسبب كفركم – من أولادكم وأتباعكم ومريديكم وجميع آثارها في اتباع شرككم إلى يوم القيامة مصداقاً لقوله سبحانه: } إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين { يس / 12 وقوله سبحانه: } ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون {

البنكرياس: حقاً سيدي إن العقيدة غالباً ما يرثها الأبناء والاتباع والمريدين وأتباع أتباعهم عن أسلافهم، وأن رسول الله r يحسب حساب ذلك كثيراً، وربما أهلك نفسه غماً وحسرة على الأخلاف الذين يرثون ضلال الأسلاف مصداقاً لقوله سبحانه: } فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا { الكهف / 6.

الرأس: نعم يا عزيزتي.. وكذا قوله عز وجل في الآيتين 69 – 70 من سورة الصافات: } إنهم ألفوا آباءهم ضالين ~ فهم على آثارهم يهرعون {، وفي الآية 23 من سور الزخرف: } وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون {. وقد جاء في الآيتين 166و167 من سورة البقرة: } إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ~ وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار {. وجاء في الآية 38 من سورة الأعراف: } قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون {.

البنكرياس: ولكن ألا ترى أن المعادلة ناقصة بحيث لم يأت ما يقابل الآية الخامسة للمرة الثانية } ولا أنتم عابدون ما أعبد { مثل الآية الرابعة } ولا أنا عابد ما عبدتم { للمرة الثانية كذلك؟

الرأس: حقاً يا عزيزتي إنه سؤال دقيق يدل على عمق في محاولة الفهم دون تكلف، بارك الله فيك. أما المقابل لذلك فإنه يفرض نفسه.. وذلك أن الرسول ليس عليه من وزر المرتد أو المنحرف بعد تأديته الأمانة وتبليغه الرسالة على الوجه الأكمل، أو بعد ارتحاله r إلى الرفيق الأعلى لقوله سبحانه: } وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين{ .

 كما جاء بكتاب الله في محاورة بينه سبحانه وبين عبده ورسوله السيد المسيح عليه السلام في بضع آيات من سورة المائدة أذكر منها ما جاء في الآية 117: } ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد {.

البنكرياس: أشكرك سيدي على هذا الإيضاح، وصدق رسول الله r لقوله: ” الدال على الخير كفاعله” ((الحديث صحيح. رواه مسلم / الإمارة / ح (3509) بلفظ قريب من هذا اللفظ وأحمد / ح (21949). والترمذي / العلم / ح (2594). وقال الألباني عن هذا اللفظ إنه صحيح انظر الصحيح الجامع ح (3393) والسلسلة الصحيحة ح (1660))، ومن المعلوم أن العكس بالعكس، وان حكم الشريك في القتل أو المحرض عليه كحكم القاتل وعليه ألا ترى سيدي أن المعادلة في الآية السادسة من السورة } لكم دينكم ولي دين { – تامة؟ فالدين عقيدة ومسئولية ودينونة ويظهر من ذلك أن لهم ما اختاروه من الكفر بالنعمة المسداة والرحمة المهداة، ألا وهي الرسالة الخاتمة..

عقيدة التوحيد والخير كله – التي جاء بها خاتم رسل الله – محمد r، وكما أن له r دينه ومسئوليته وجزاءه عند ربه لأنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة على الوجه الأتم الذي يريده سبحانه ويرضاه، فله إذن مثل اجر كل من استجاب لدعوته إلى يوم الدين.

الرأس: يظهر مما تقدم أن نشر دعوة الخير مسئولية في عنق كل مؤمن متبع لخاتم رسل الله، وقد سبق لك عن الآية 108 من سورة يوسف: } قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين { على أن كتاب الله يحث على ذلك في كثير من آياته، وكم يكون بودي لو استعرضنا سورة الجن لعل الله يفتح علينا بما يؤيد ما نحن بصدده من مسئولية الدعوة إلى الله.

البنكرياس: يظهر من هذه السورة الكريمة – التوحيد الكامل مع وجوب الدعوة إليه سبحانه، إذ جاء في الآية 8 – 10: } وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديدا وشهبا ~ وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ~ وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا {. ويتبين من هذه الآيات الكريمة أنهم لما طردوا من السماء أخذوا يتساءلون عن حادث جديد في الأرض لا يدرون أهو لشر الأرض أم رشدها. وقد جاء في الآية 18 – 19: } وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا {. والذي يظهر من الآية 18 أن المساجد يجب أن تكون خالصة لله وحده وألا تكون مقابر لمن يزكونهم ويتخذونهم أولياء يتقربون بهم إلى الله ولا لغيرهم. أما الآية 19 فيتبين منها انهم عندما رأوا رسول الله قائماً يدعو الله سبحانه وحده } كادوا يكونون عليه لبدا {، أي أنهم التفوا حوله لبدا ولسان حالهم يقول لرسول الله r: أنت السر الذي طردنا من السماء من أجله، وإنك لخير هذه الأرض ورشدها وأن فيك الخير كله. نلتجئ إليك راجين منك أن تخلصنا مما نحن فيه لأننا لن نعجز لله في السماء ولن نعجزه في الأرض هربا .

الرأس: هل أن الآيات تحتمل كل هذه المعاني..؟

البنكرياس: عفواً سيدي، إنني أقتبس ما أقوله منك ولا أعتقد إلا أن آيات كتاب الله تشتمل عليها. إن الآية 19 تقول: } وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا {. ويظهر منها أنهم وجدوا ضالتهم فتلبدوا عليها راجين الرسول r أن يجيرهم وأن بساعدهم في محنتهم، ويخلصهم من الكرب الذي هم فيه. وهو ما يظهر من الآيات 20- 23 من هذه السورة الكريمة بدليل أمره لرسول الله r بأن يرد عليهم بقوله: } قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا ~ قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشدا ~ قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا ~ إلا بلاغاً من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا {. وهل لي أن أترك التكملة لك سيدي؟

الرأس: حقاً يا عزيزتي، حيث كثيراً ما يعرف السؤال من فحوى الجواب. ويظهر من الآية 20 الأولى من آيات الجواب – أن التجاءكم إلى ً فيه شرك بالله، وإني عبد مثلكم أدعو ربي ولا أشرك به أحدا. ومن الآية 21: كلنا عبيد الله ولا يملك أحدنا ضراً للأخر أو نفعاً له. ومن الآية 22: كيف تطلبون مني أن أجيركم وأنا أحق منكم بالإجارة لأنني أحمل أكبر مسئولية حملها إنسان وسوف لا يكون لي مفر أو ملجأ من الله سبحانه إلا إليه ولا شفيع لي عنده، إلا إذا وفقت في تبليغ رسالات ربي وأديت ما علي من واجب الأمانة التي تتبرأ منها السماوات والأرض كما يظهر من الآية 23 – على أني وإياكم نمثل طرفين: رسولاً ومرسلاً إليهم.. فإن لم أبلغ أكون قد عصيت ربي، ويكون مصيري جهنم، أو أبلغ – وهذا ما أرجوه، ويكون نصيبي رضوان الله وفسيح جناته وأنتم إن سمعتم وعقلتم وآمنتم فإن الجنة لكم، وإن أبيتم فإنكم تعتبرون من العاصين الذين لهم نار جهنم خالدين فيها أبداً.. التي هي مصير كل من يعصي الله: مني بعدم التبليغ أو منكم بعدم الاستجابة. وهذا ما يطهر من الآية 23 وهي: } إلا بلاغاً من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً {.

البنكرياس: صحيح سيدي.. إن بين الرسل والمرسل إليهم مسئوليات وتخاصماً أمام الحكم العدل سبحانه ولا سيما يوم الحساب يوم الدين، } ثم ما أدراك ما يوم الدين ~ يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والآمر يومئذ لله { } يوم تأتي كل نفس تجدل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون { النحل / 111.

الرأس: لا شك أن المسئولية عامة، فقد ورد في الأثر عن المصطفى r: ” من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان” ((الحديث صحيح. رواه مسلم / الإيمان / ح (70). والترمذي / الفتن / ح (2098) والنسائي / الإيمان / ح (4922). وأحمد / ح (10651)).

وأن الرسالة قائمة في أتباع محمد r إلى يوم القيامة، والمسئولية قائمة عليهم أيضاً. فقد يوقف المؤمن رجل لا يعرفه ويقول له: أنت أحق مني بعذاب جهنم، فيقول: يا هذا إني لا أعرفك.. فيقول له: نعم لا تعرفني ولكنك رأيتني في أحد الأيام أفعل كذا وكذا فلم تنهن. فإذا كان ما يدعيه حقيقة فلا بد وأن ينظر في دعواه من الحكم العدل سبحانه. وقد يحكم الحكم العدل بالنار على المؤمن لتهاونه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، وينجو المذنب من العذاب لقوله سبحانه: } وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا {. ولقد ذم القرآن من سبقنا لمثل ذلك من الأمم بقوله سبحانه: } كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه {.

البنكرياس: لو قدر المسلون هذه المسئولية لقاموا بها خير قيام ولما ذلوا أبدا.

الرأس: لقد سبق أن بينت جانباً من سورة البينة، فهل لك أن تكمليها مشكورة؟

البنكرياس: نعم.. جئت بما تبين من الآيات الأولى والثانية والثالثة، فهل تتكرم سيدي بما يتبين لك من باقي هذه السورة الكريمة؟

الرأس: لقد جاء في الآية الرابعة: } وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة {

أي أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى بعد ما جاءتهم البينة وقامت عليه الحجة تفرقوا إلى فرق كثيرة..وكما قيل: كل شيخ له طريقة وله أتباع، بينما أن طريق الله واحد. ومثل ذلك التفرق حل في المسلمين أيضاً.. وأن حساب أهل الطرق المخالفة لصراط الله المستقيم – على الله سبحانه، والحكم واحد في أهل الكتب السماوية جميعاً. وقد يكون في هذه الآية الكريمة خطاب لقوم محمد r ومتبعيه، } أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر { لأن أمر الله سبحانه واحد وهو ما جاء في الآية الخامسة: } وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة {. ويطهر من الآية السادسة أن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين بعد قيام الحجة عليهم هم شر البرية جزاؤهم نار جهنم، وأن الذين استعملوا أسماعهم وعقولهم وآمنوا برسالات ربهم، أولئك هم خير البرية.. كما جاء في الآية السابعة، وجزاؤهم في الآية التالية

 } جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه {.

البنكرياس: نعم.. يتبين من الآيتين السابعة والثامنة أن تعاليم رسل الله تتلخص في أمرين ألا وهما الإيمان الخالص والعمل الصالح المصحوب بخشية الله وتقواه، وأن المؤمنين بهذه التعاليم إيمانناً صادقاً هم خير البرية جائزتهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، ضيوفاً عند الرحمن في فردوسه الأعلى تحت عرشه، خالدين في هذا النعيم المقيم ما دامت السماوات والأرض، نسأله سبحانه أن يجعلنا منهم.

الرأس:

آمين آمين لا أرضى بواحدة حتى أضيف إليها ألف آمينـــأ

البنكرياس: هل لي أن أسألك سيدي عن معنى العرش لغة؟

الرأس: لا تطلق هذه التسمية إلا لموصوف بعلو في المكان أو المكانة.

البنكرياس: هل تتكرم سيدي بأمثلة على ذلك؟

الرأس: كل ما أظلنا من عريش أو عرائش أو عروش فإن التسمية تشمله، ولذا جاء بكتاب الله عدة آيات في هذا المعنى أذكر بعضاً منها..

} وأوحي ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون { النحل /68

} أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها { البقرة / 259.

} ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون { الأعراف / 137.

} فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها { الكهف / 43.

} وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات { الأنعام / 148.

ثانياً: حول ما علا مكانة، فقد جاء بذلك آيات عدة أذكر منها:

} ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا { يوسف / 100.

} فلما جاءت قيل أهكذا عرشك { النمل / 23.

وقد جاءت آيات كثيرة تشير إلى عرش الرحمن سبحانه الذي له العلو المطلق في المكان والمكانة. أذكر منها:

} فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم { التوبة / 129.

} قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم { المؤمنون / 116.

} الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيراً { الفرقان / 59.

} الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير )الحديد / 4.

البنكرياس: أشكرك على هذا الإيضاح، ثم ألا ترى سيدي أن العلو المطلق في المكان والمكانة يشمل اسم الله الأكبر: بسم الله الرحمن الرحيم؟

الرأس: لا شك في ذلك لأن العلو في المكانة لا ينكره إلا ملحد جاحد، أما في المكان فله المقام الأول – كتابة – إذ يكون في الوسط الأعلى من كل موضوع ذي بال. كما يبدأ به قولاً في افتتاح كل أمر ذي بال لقوله r:

” كل أمر ذي بال لا يبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم هو أجذم أو أقطع أو أبتر” ((رواه أبو داود/الأدب/ح (4840)، وأحمد 2/359. وابن ماجه/النكاح/ح (1894). والحديث ضعيف. ضعفه ابن حجر والسيوطي والألباني انظر إرواء الغليل رقم (1 – 2 )). كما ورد في الحديث الشريف برواياته الثلاث وكذا في الحمد معه.

البنكرياس: إن ما يدعو للعجب والغرابة أنك لو تحدثت عن عرش الرحمن أوقفك السامع وقال إن الحديث عن عرش الرحمن والسؤال عنه بدعة. والله سبحانه يقول: } فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون {.

الرأس: جزى الله الإمام مالكاً خيراً وغفر له إذ قال بنية حسنة: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال بدعة كي لا يهرف الكثير بما لا يعرفون. وأن آيات كتاب الله براعم تتفتح في مواسمها كلما أحسن الإنسان الاستماع واستخدام المواهب واستنبط المعاني من كتاب الله الذي فيه خبر ما قبلنا ونبأ ما بعدنا وحكم ما بيننا وعجائبه لا تنقضي. وهو القول الفصل وما هو بالهزل.

البنكرياس: لقد تكرر قوله سبحانه: } الرحمن على العرش استوى {، فإذا كانت كلمة العرش تشمل (بسم الله الرحمن الرحيم) فلا شك أنه مما يؤيد ذلك أن في وسط هذا الاسم الأكبر، اسم (الرحمن) مستو بين لفظ الجلالة و (الرحيم).

الرأس: أتمي وزيدي زادك الله سبحانه تفهماً وإدراكاً.

البنكرياس: لقد علمت مما تقدم أن بسم الله الرحمن الرحيم مكانه الوسط الأعلى من كل موضوع كتابي ذي بال يشمل ذلك البدء في كل أمر ذي بال كما ورد في الحديث الشريف، وقولاً فقد ورد عن المصطفى r ((الحديث صحيح. رواه البخاري/فضائل القرآن/ح (4658) والنسائي/الافتتاح/ح (1004)). أنه كان يمد بسم الله.. الرحمن الرحيم، وأن مكانه قولاً البدء في كل أمر ذي بال كما تقدم. يبقى علينا معرفة القراءة إذن: هل تكون سراً أو جهراً؟

الرأس: الوارد عن المصطفى r أنه قرأ بالبسملة سراً وجهراً، وأن الخلفاء الراشدين قرءوها سراً حتى في صلاة الجهر، وان بعض المجتهدين يرى قراءتها جهراً في صلاة الجهر، وسراً في صلاة السر، وبعضهم يرى أفضلية قراءتها سراً حتى في صلاة الجهر.

البنكرياس: إن العالم يدخل اليوم في دين الله أفواجا في أوروبا وأمريكا واليابان وأفريقيا، وغيرها. وللإسلام أعداء من اليهود والباطنيات يندسون بين الصفوف ويغبرون الواقع الذي يمشي عليه الداعي إلى الله بدعوى أنه حنفي والآخر مالكي، بينما الكل مستمد كلامه من كتاب الله وسنة رسوله، وكم يكون بودي لو وجدنا المعنى والدليل في القرآن الكريم كي لا يختلف اثنان في الأمر الواحد ما أمكن ذلك؟

الرأس: لقد فقت أستاذك.. ولكن لا بأس، وأخشى أن أكون تلميذك كما هو واقع الآن.

البنكرياس: لا أزال تلميذتك، ولا أطمئن لأمر حتى أسألك فيه، ولذلك سألتك عن أولوية السر أو الجهر في البسملة.

الرأس: طيب.. لا تعجلي على بطلب الجواب وأعطيني فترة كافية للتفكير يا عزيزتي.

البنكرياس: لك ذلك سيدي.

الرأس: تعالي نفكر معاً في مستهل سورة طه لعلنا نجد فيها المعنى الذي يريحنا جميعاً، ثم إن علينا العرض كعادتنا دون الفرض.

البنكرياس: إني حاضرة لأستمع لك فأوافقك أو أستوضح منك كعادتي.

الرأس: ما رأيك في لفظ } طه { المكون من الطاء والهاء التي بدئت وسميت السورة بهما؟

البنكرياس: إن الحروف المبدوءة بها بعض سور كتاب الله يظهر لي منها أمران: الأول – عظمة السورة حيث إن غالباً ما يأتي ذكر القرآن الكريم بعد مثل هذين الحرفين كما جاء في هذه السورة: } طه ~ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى {.

وفي سورة البقرة مثلاً: } الم ~ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين {.

وفي سورة آل عمران: } الم ~ الله لا إله إلا هو الحي القيوم ~ نزل عليك الكتاب مصدقاً لما بين يديه وأنـزل التـوراة والإنجيـل {.

وفي سورة يونس: } الر ~ تلك آيات الكتاب الحكيم {.

وفي سورة هود: } الر ~ كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير {.

وفي سورة يوسف: } الر ~ تلك آيات الكتاب المبين ~ إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون {.

وفي سورة الرعد: } المر ~ تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون {.

وفي سورة الشعراء: } طسم ~ تلك آيات الكتاب المبين {.

وفي سورة النمل: } طس ~ تلك آيات القرآن وكتاب مبين {.

وفي سورة لقمان: } الم ~ تلك آيات الكتاب الحكيم {.

وفي سورة يس : } يس ~ والقرآن الحكيم {.

وفي سورة ص: } ص والقرآن ذي الذكر {.

وفي سورة غافر: } حم ~ تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم {.

وفي سورة الشورى: } حم عسق ~ كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم {.

وفي سورة ق: } ق والقرآن المجيد {

والأمر الثاني – إن للقرآن العظيم أسلوباً خاصاً، فالحروف التي تتماشي مع الأسلوب القرآني كلها موجودة في فواتح السور ولا يمكن تغييرها، أما الحروف الأخرى فإنها ناتئة عن الأسلوب فيما أعتقد.

الرأس: أحسنت يا عزيزتي .. وهل تتكرمين بزيادة الإيضاح مشكورة؟

البنكرياس: إن للقرآن العظيم أسلوباً قرآنياً فريداً مخالفاً لجميع أساليب الشعر والنثر المعروفة عند العرب من قبله ومن بعده. وقد تحدى الله سبحانه الأولين والآخرين بالإتيان ولو بسورة من مثله فلم يأتوا ولن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. إذ يظهر لي أن الحروف الـ 14 المذكورة في القرآن جميعها منسجمة مع الأسلوب القرآني مثل: ص، ق، يس، حم عسق وغيرها.

أما الحروف الـ 14 الأخرى فإنها لا تنسجم مع الأسلوب القرآني كقولك مثلاً: د ذ ر أ و ج خ و … ولا بد أن يوفق الله سبحانه من يشاء من عباده إلى معرفة أسرار ذلك. على أن تساؤلاً يخالجني وهو: هل هذا الانسجام البديع قد كان بالصرفة، أي أن الله سبحانه قد صرف العباد عن ذلك، أم أنه إعجاز؟

الرأس: لا يا عزيزتي.. لم يكن ذلك من باب الصرفة ولكن الله سبحانه وتعالى لم يدع حرفاً أو كلمة يشملها كتابه العزيز وتتماشى مع أسلوبه القرآني الفريد إلا ولها فيه مكان مناسب ومعنى مفيد ولو أراد أي مكابر أن يضيف حرفاً أو كلمة إلى القرآن الكريم، فلا بد أن ينتأ الحرف أو الكلمة عن الأسلوب القرآني بحيث يستنكره السامع ويقول له قف. وهذا من إعجاز القرآن العظيم وسر حفظه. } لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد {. فصلت / 42.

البنكرياس: لا شك أن في ذلك إعجازاً كبيراً، هل لك أن تتفضل علي بأمثلة على ذلك سيدي؟

الرأس: إن في تكرار بعض القصص القرآنية بصور متعددة، وكذلك القراءات السبع المعروفة، كل ذلك متماش مع سلامة الأسلوب وجمال المعنى، أليس في ذلك دليل على ما تقدم؟

البنكرياس: ليس لدي ما يعارض ذلك بل لدي ما يؤيده.

الرأس: هات ما عندك مشكورة.

البنكرياس: إن القرآن العظيم يتجنب كل كلمة ناتئة عن أسلوب الفريد، فيلاحظ مثلاً أن كلمة “الأرض” لم تأت بصيغة الجمع وعندما اقتضت صيغة قال سبحانه في الآية 12 من سورة الطلاق: } الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً {. وكذا السمع.. لم يأت بصيغة الجمع في كتاب الله، ولعل الأراضي أو الأرضون، وكذلك الأسماع لا تتماشى مع سلاسة الأسلوب القرآني. أما ما ظهر لي بخصوص ما ذكرته بأن الله سبحانه لم يدع حرفاً أو كلمة يشملها أسلوب كتابه العزيز إلا ولها فيه مكان مناسب ومعنى مفيد، فلقد جاء في الآية 91 من سورة الأنبياء: } والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا { – وكلمة فيها تشمل الجسم كله. وجاء في الآية 12 من سورة التحريـــم: } ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا {، ألا ترى سيدي أن الإعادة بكلمة فيه التي يشملها الأسلوب والمعنى خشية أن يأتي أحد ويقول: فيه بدلاً من فيها، أو فيها بدلاً من فيه، فتكون الكلمتان المتماشيتان مع الأسلوب والمعنى موجودتين في كتاب الله .. لئلا يختلف على ذلك فيحدث انشقاق وتفرقة، وهذا للمثال لا للحصر، والله سبحانه ولي االعلم والتوفيق.

الرأس: بارك الله فيك ونفعنا والعالم كله ما يظهر لك من معان قابل للتفكير والنظر.

البنكرياس: تلميذتك سيدي.. وقد أستشف وأستلهم منك ما أقوله بدليل موافقتك على ذلك. ثم إني أذكرك بأننا قد اتفقنا على النظر في سورة طه بقصد معرفة حكم القول في: بسم الله الرحمن الرحيم، أيكون جهراً أو سراً في صلاة الجهر؟

الرأس: أشكرك على تذكيري.. ونحن في طريقنا إلى ذلك بإذن الله. وإن علينا بعد أن تحدثنا فيما ظهر لنا عن الحرفين الأوليين من سورة طه، وعن الحروف المماثلة في فواتح سور كتاب الله – أن نتحدث عن قوله سبحانه في الآية الثانية: } ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى {. إن في القرآن العظيم 114 سورة…

البنكرياس (مقاطعة): يهمني سيدي أن اعرف معنى كلمة سورة، ولك من الله أحسن الأجر وأجزله.

الرأس: قيل إنها وحدة متكاملة كالمدينة المسورة أو أنها مملكة لقول النابغة الذبياني:

ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب

البنكرياس: إن مثل هذه التسمية توحي بأن سور كتاب الله محفوظة بفضله سبحانه وعنايته بدليل قوله جل شأنه: } إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون {. وألا ترى سيدي أنه إذا كانت السورة وحدة كاملة مسورة أو مملكة محفوظة محمية من رب العالمين فإنه لا بد أن يكون لها عرش شأن كل وحدة متكاملة أو مملكة، وأن مملكة بدون عرش تكون شقاء.

الرأس: نحمد الله الذي فتح عليك وجعلنا نقترب بسرعة إلى ما كنا نروم الوصول إليه.

البنكرياس: أشكرك سيدي.. ولعلي أدركت المقصود من الآيات 3/7 من قوله سبحانه: } إلا تذكرة لمن يخشى {، وأن من التذكرة – أن كل وحدة من وحدات الكون مهما صغرت أو كبرت تشكل ملكوتاً كاملاً مصداقاً لقوله عز وجل: } قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون { وقوله سبحانه: } فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون {، و } ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم {. وناصية الدابة قمتها في أعلى الرأس.

الرأس: بارك الله فيك.. وإليك الآية الرابعة: } تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلا {.

البنكرياس: يظهر من هذه الآية الكريمة أن القرآن العظيم منزل ممن خلق الأرض والسموات العلا، فاطر كل شيء ومبدعه، وملكوت كل شيء بيده سبحانه.

الرأس: هذا ما يتبين في الآية الكريمة.. وإليك الآية الخامسة: }الرحمن على العرش استوى{

البنكرياس: لا شك أن الله سبحانه وسع كرسيه السماوات والأرض، وأنه آخذ بالنواصي ومالكها، وقلوب البشر بين إصبعيه، وبيده ملكوت كل شيء له الخلق والأمر سبحانه لا إله إلا هو. إليه المرجع والمصير.

الرأس: حقاً يا عزيزتي.. وأن الآية السادسة تؤيد ما ذهبت إليه، وذلك في قوله سبحانه: } له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى {.

البنكرياس: لقد فهمت مما تقدم أن لكل شيء ملكوتاً، ولكل ملكوت عرش، وأن الرحمن مستو على كل عرش يليق بجلال قدسه، وأن سور كتاب الله أولى وأحرى أن تبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم الذي هو اسم الله الأكبر، وله العلو في المكان والمكانة. وقد عرفنا أيضاً أن مكان البسملة في الكتابة هو في الوسط الأعلى من الصفحة الأولى. وفي القول تكون في البداية.. ولم يتبق بعد ما تقدم إلا الإجابة على سؤالي عن حكم السر والجهر في بسم الله الرحمن الرحيم في القول.

الرأس: إن في الآية السابعة الجواب على ذلك بلسان عربي مبين.. وذلك لقوله سبحانه: } وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى {.

البنكرياس: الحمد لله رب العالمين، إن القرآن العظيم فيه العلم كله والكمال كله، ألا ترى سيدي أنه يظهر من الآية أن الجهر جائز والسر جائز، إنما السر أولى؟ وألا ترى أن ما جاء في السنة المطهرة مقتبس من القرآن الكريم؟

الرأس: هذا عين ما يتبين لي، ولقد كان الخلفاء الراشدون يقرأون البسملة سراً في صلاة الجهر.

البنكرياس: أعود وأكرر قولي: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

الرأس: إن الكمال كما تقدم يظهر م قوله سبحانه : } الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى {.

البنكرياس: أشكرك سيدي.. وأن الذي يظهر لي من ذلك أنه إذا كان اسم الرحمن مستوياً على عرش كل أمر ذي بال، فلا بد أن يكون هذا الاستواء بين اسمين من الأسماء الحسنى، وإذا كان لم يأت في كتاب الله قبل اسم الرحمن إلا اسم الجلالة ” الله “، ولم يأت بعده إلا ” الرحيم “.. فإن هذا العرش الكامل هو اسم الله الأكبر: بسم الله الرحمن الرحيم، وأن الله سبحانه هو العلام الحكيم.

الرأس: لا شك في ذلك، ولا شك أن لسور كتاب الله المحل الأول والمكانة الأولى عن كل أمر ذي بال، ولا بد أن يعلو كل سورة من سور كتاب الله العرش الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم.

البنكرياس: ولكن سورة التوبة لم تبدأ بهذا الاسم الأكبر.

الرأس: إن في ذلك تأييداً لما ذهبنا إليه، إذ أن سورة التوبة متحدة مع سورة الأنفال ومتتمة لها. وإذا حصل اتحاد بين مملكتين فلا بد أن يجمع المملكتين عرش واحد، شأن سورتي الأنفال والتوبة.

البنكرياس: ذلك صحيح، إنما افتتاح الحديث يجب أن يبدأ بالبسملة والحمدلة لا سيما إذا كان الأمر ذا بال.

الرأس: لعلك تقصدين افتتاح الحديث بالبسملة- حتى لو جاءت سورة التوبة في بدء الحديث. وإذا كان الأمر كذلك، فإن البسملة في بدء الحديث ذي بال – من تمامه.. على أن السورة لا تبدأ بالبسملة مرة ثانية عند تلاوتها

البنكرياس: يظهر لي أن حكم كل قراءة لا تكون في أول السورة من كتاب الله كحكم سورة التوبة لا تبدأ بالبسملة.

الرأس: ويظهر لي أيضاً، أن الكثير ممن يتلون كتاب الله لا يبدأون بالبسملة ما لم تكن التلاوة في بداية السورة 

البنكرياس: ولكنهم يبدءونها بالاستعاذة. فما رأي سيدي فيمن يفتتح قراءة القرآن بالاستعاذة من الشيطان الرجيم وقبل البسملة في فواتح السور، فهل ورد شيء في تقديم الاستعاذة كما ورد في تقديم البسملة والحمدلة؟

الرأس: لا أعتقد أنه ورد شيء من ذلك، وربما العكس، وهو النهي عن ذلك بدليل أنه عندما عثرت ناقة الرسول r قال الرديف: تعس الشيطان.. فقال r: “لا تقل ذلك فإنك إذا قلتها تعاظم وقال بقوتي صرعته، ولكن قل باسم الله فإنك إذا قلتها يتصاغر حتى يكون كالذبابة” ((رواه أبو داود/الأدب/ح (4330). وأحمد/ح (19682). وصححه الحاكم 4/292. والحديث إسناده قوي. انظر مشكل الآثار ح (368)).

وورد عنه r أنه قبل أن يقدم رجله اليسرى للدخول إلى محل قضاء الحاجة يقول: “باسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث” ((الحديث صحيح. رواه البخاري/ الوضوء/ح (139). ومسلم / الحيض / ح (563). والترمذي/الطهارة/ح (5)). فالاستعاذة تأتي بعد البسملة.

البنكرياس: إن علماء كباراً يقدمون الاستعاذة على البسملة.

الرأس: لعلهم أخذوا ذلك من قوله سبحانه: } فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله {.

البنكرياس: ألا ترى سيدي أن الفاء في } فاستعذ { هي للترتيب والتعقيب، وعليه فإن الاستعاذة تكون بعد القراءة لا قبلها؟

الرأس: يظهر لي أن ذلك هو مفهوم اللغة.. لكنهم اختلفوا على التقديم والتأخير، إلا أن أصحاب التأخير غلبوا على أمرهم.

البنكرياس: وما دليلهم على ذلك؟

الرأس: هو القياس على قوله سبحانه: } يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم {.

البنكرياس: الفاء هنا أيضاً للترتيب والتعقيب، وقد يكون معهم الحق في هذا القياس وإن كان غير مقبول – لغة – فيما يظهر، لكن ما رأيك أنت سيدي في ذلك؟

الرأس: لا يا عزيزتي .. لعل الفهم يكون خاطئاً، وكل قياس على فهم خاطئ يكون خاطئاً كذلك،وإني سأتلو عليك الآية السادسة من سورة المائدة لعل الله يفتح علينا وهو الفتاح العليم: } يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ~ وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء ً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون {. وهذه الآية هي دليل من رأى تقديم الاستعاذة من البسملة، وأنت والحمد لله قد أصبحت موفقة بما يفيض الله سبحانه من المعاني القيمة لآيات كتابه على من يشاء من عباده، فلك فترة تستلهمين فيها و تأتين بما يتبين لك لنتدارسه معاً عسى الله سبحانه أن يوفقنا جميعاً إلى ما فيه الخير و الصواب إنه سبحانه هو السميع المجيب.

البنكرياس: (بعد الفترة المعطاة لها).. يظهر لي كما تقدم أن الفاء إذا جاءت بعد إذا.. فإنها تكون للترتيب و التعقيب، بينما الوضوء هو قبل القيام إلى الصلاة لا يكون عند القيام إلى الصلاة أو بعدها. هذا هو مفهوم اللغة، وإذا كان من البدهي الذي لا يختلف عليه أن الوضوء قبل إقامة الصلاة، فإنه لأمر يحيرني بالنسبة لمفهوم اللغة إلا أنني لا أستطيع إلا التسليم بما تأوله البعض وهو: إذا أردتم أن تقوموا إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم، وعليه فإن القياس على ذلك في الاستعاذة جائز فيما يظهر.. وهو: إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله.

الرأس: إن لي ملحوظة على ذلك ولكن أؤجلها حتى تتمي ما يظهر لك من هذه الآية الكريمة، فأرجو مواصلة حديثك.

البنكرياس: كما يتبين من قوله سبحانه: } إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم {. أن الوضوء واجب عند كل قيام صلاة..إلا أن الذي يظهر من ذلك نوا قض الوضوء – كالمجيء ممن الغائط أو ملامسة النساء – أن الوضوء يستمر مع الإنسان ما لم يأت بما ينقضه، وأن الغائط لغة هو المكان المنخفض من الأرض أي الساتر الذي يستتر فيه الإنسان عند قضاء حاجته، وأن ما يخرج من السبيلين ناقض للوضوء. وأن للإنسان أن يصلي أكثر من صلاة واحدة بوضوء واحد ما دام أنه لم يحدث. أفلا ترى سيدي أن في ذلك شيئاً من التعارض؟

الرأس: أتمي ما يظهر لك مشكورة.

البنكرياس: لعل جميع نواقض الوضوء يشملها المجيء من الغائط أو ملامسة النساء، إلا النوم الذي لا شك أنه من نواقض الوضوء.. فإني لم أر له ذكراً في الآية الكريمة. ثم إنه مما يسترعي الانتباه ذكر الجنب بين القيام من النوم ليلاً أو نهاراً ولا سيما أنه بالنوم يتم ذكر نواقض الوضوء في الآية الكريمة.

الرأس: إن تساؤلك النابع من الفطرة تؤيده الآية 43 من سورة النساء التي جاءت مماثلة للآية 6 من سورة المائدة إذ جاء السكر فيها محل القيام للصلاة في قوله سبحانه: } يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون {.

البنكرياس: لو تفضلت علي سيدي بتلاوة باقي الآية.

الرأس: قال سبحانه بعد ذلك: } ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدكم من الغائط أو لا مستم النساء فلم تجدوا ماء ً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفواً غفورا {. أفلا ترين أن كل غياب عن الوعي أو ذهول أو هوس سواء كان في سكر مفتعل أو نوم أو إغماء أو غيره يعتبر ناقضاً للوضوء، كما لا تجوز الصلاة في حالة السكر حتى مع تجديد الوضوء ليعلم المصلي ما يقوله في صلاته.

البنكرياس: وهل جاء في كتاب الله ما يفيد بان هناك سكراً غير السكر المتعمد بتناول مسكر ما؟

الرأس: نعم.. لقد جاء في كتاب الله ما يفيد ذلك، أذكر منه قوله سبحانه: } وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت عنه تحيد { ق / 19 } لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون { الحجر/72 } وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد { الحج / 2.

البنكرياس: أشكرك سيدي على هذا الإيضاح.. ومما لا شك فيه أن النوم يغيب فيه المرء فترة قد تستغرق ساعات عدة.. ولا شك أنه من نواقض الوضوء… وعليه فإن القيان هو القيام من النوم بدليل قوله سبحانه: } وإن كنتم جنباً فاطهروا {، لأن النائم يتعرض للجنابة في حالة نومه مع أهله، وقد تكون الجنابة احتلاماً أثناء النوم وعليه فإنها مما يظهر أن القياس في تقديم الاستعاذة قد قام على فهم خاطئ، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يكون القياس خاطئاً، وجل من لا يخطئ سبحانه.

الرأس: لا بد إذن من العودة إلى مفهوم اللغة المؤيد من كتاب الله وسنة رسوله r، وأن “الفاء” إذا جاءت بعد “إذا” تكون للترتيب والتعقيب ولا سيما أن “إذا” هي أداة شرط، وأن الفعل المقترن بالفاء هو جواب الشرط. وعلى كل لا يسعني إلا أن أقول بارك الله فيك ونفعنا بك.