الرأس: ما شاء الله… أحسنت يا عزيزتي، فسبحان القائل: ] وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً [.
البنكرياس: وكيف يكون أهل المنطقة الوسط شهداء على الناس.
الرأس: بما أن هذه المنطقة هي مهبط الرسالات قد ختمت برسالة خاتم الأنبياء محمد r، فإن على شعوب هذه المنطقة أن تؤمن بهذه الرسالة الخالدة… مجردة من كل شائبة دخيلة عليها من الأعداء – شياطين الإنس والجن، وأن تكون بمجموعها مهيمنة على العالم وشهيدة عليه – كما كان الرسول r شهيداً على قاعدتها آل محمد الذين هم متبعو سنته من أصحابه وأهله ومتبعيهم إلي قيام الساعة – بعيدة عن التفرقة شيعاً متعددة وأحزاباً متفرقة، ] كل حزب بما لديهم فرحون[ ولعل كل من لا ينتظر بفارغ الصبر عجائب القرآن العظيم التي أخبرنا بها الله ورسوله، ويعتمد فيما يسمع ويقرأ على ما ينقل من أقوال المتقدمين فقط، ولا يسمع ولا يبصر ولا يعقل غير ذلك يكون مكذباً بالعجائب المتجددة ويحسب أنه يحسن صنعاً. ولعله لهذا تكررت آيات التحذير من التكذيب في سورة الرحمن وسورة المرسلات وغيرهما من سور كتاب الله الذي لا تنقضي عجائبه..
البنكرياس: الحقيقة إن كانت الوسيطة في جميع ما يشتمل عليه معني الوسط موجودة فينا وفي عقيدتنا وموقعنا الجغرافي، وأنها نعمة فضل الله بها الأمة الوسط، إلا أنها مسئولية أي مسئولية، ألا ترى ذلك سيدي؟
الرأس: نعم.. إنها مسئولية عظمى. ألا وهي مسئولية التبليغ، وأن علينا ألا نترك وسيلة نستطيع بها تبليغ هذه الرسالة الخاتمة لجميع أهل الأرض إلا وسلكناها، واستغللنا طريقنا وموانينا البحرية والجوية لتبليغ الناس قولاً وعملاً اقتداء بخاتم الرسل r الذي تفضل علينا سبحانه بالإيمان برسالته لنكون شهداء على الناس من بعده كما كان الرسول الخاتم علينا شهيداً.
البنكرياس: أشكرك سيدي، وأعود وأقول إننا لا نستطيع أن نمثل الأمة الوسط بحق إلا إذا حاول كل منا أن يصلح نفسه أولاً، ثم ينشر هذه الرسالة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر في جميع الأصقاع والبقاع، وعند ذلك نكون كما كان الأسلاف الكرام خير أمة أخرجت للناس.
الرأس: نسأله سبحانه صلاح الأعمال وتحقيق الآمال إنه سبحانه هو السميع المجيب.
البنكرياس: إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، والدعاء وحده لا يكفي ولكن الأمر يحتاج إلى مثلث: العزم والتوكل على الله والدعاء معاً، لقوله سبحانه: ] فإذا عزمت فتوكل على الله [ آل عمران / 195. وقوله سبحانه: ] وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون [ البقرة / 186.
الرأس: الحق أنك تمثلين المؤمن القوي بارك الله فيك ونفعنا بك.
البنكرياس: تلميذتك سيدي.. على أن لدي تساؤلاً وهو لقد كان حديثنا عن الملاحة البحرية، ثم جاء ذكر الملاحة الجوية عفواً، فهل جاء ذكر عن الطرق الجوية في سورة الرحمن؟
الرأس: لقد جاء في الآية 33 بعدما تقدم من سورة الرحمن: ] يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان [.
أفلا ترين أن هذه رخصة من الله سبحانه بالنفاذ من أقطار السماوات والأرض، ثم أخبرنا سبحانه بأن هذا النفاذ لا يكون إلا بسلطان، ولعل السلطان هنا هو سلطان العلم والقوة لدى الإنسان.. في مقابل السلطان التكويني لدى الجن. وأن في الآية ما يشمل السير في مختلف أقطار الأرض عن طريق الجو. ويتبين من هذه الآية وما بعدها من الآيات معان متعددة سنتطرق إليها في الجزء الثاني من المحاورة بإذن الله.
وأعود وأختم هذا البحث بقوله سبحانه مخاطباً رسوله r: ] قل هذه سبيلي ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين [ يوسف / 108.
البنكرياس: سيدي.. سيدي، قبل أن تختم أذكرك بما جاء في فضل الدعوة إلى الله، لقد جاء في الأثر ” لأن يهدي الله على يديك رجلاً من أهل الشرك خير لك من أن يكون لك حمر النعم ” ((الحديث صحيح. رواه البخاري/الجهاد والسير/ح (2724). ومسلم/فضائل الصحابة/ح (4423)).
الرأس: لقد جاء هذا الحديث في مسند ابن حنبل، ص 238 من المجلد الخامس على أن العكس بالعكس لقوله سبحانه: ] وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً [، وقوله سبحانه: ] فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [.
البنكرياس: أشكرك سيدي.. وأن المسئولية عظمى والأمانة مسئول تأديتها لقوله سبحانه:
] إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا [. الأحزاب /72. وإن من أهم ما حملناها من الأمانة هو ميراث النبوة في تبليغ الرسالة كنسخ مصغرة عن الرسول الكريم مصداقاً لقوله سبحانه: ] والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقاً لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير ~ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير [ فاطر / 31- 32.
الرأس: صحيح أن المسئولية ليست بالأمر الهين وإنها لترتعد لها الفرائص. على أن الذي يظهر من آخر الآية المتقدمة – 108 / يوسف – أن الدين كله يتلخص في قوله سبحانه: ] وسبحان الله وما أنا من المشركين [. فإن كل دعوة خالصة لله تسبيح، وكل عمل صالح تسبيح، وكل أمر بمعروف ونهى عن المنكر تسبيح، وأن عمل الإنسان بإتقان لما خلق له من خير – تسبيح عملي، فإذا أحسن المرء في التسبيح في كل عمل من أعماله وابتعد عن الشرك بالله، فقد أدى الأمانة وانطبق عليه قوله سبحانه: ] قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ~ لا شريك له… [. هذا ما يظهر لي والله هو الهدي إلى سواء السبيل.
البنكرياس: أحسنت سيدي، إن التسبيح قولاً وعملاً عبادة، وإن كل عمل في الخير تسبيخ، وفي كل تسبيح صدقة.. قال رسول الله r: ” كل سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع الشمس فيه. قال: تعدل بين الاثنين صدقة وتعين الرجل على دابته تحمله عليها أو ترفع له متاعه عليها صدقة، وقال: الكلمة الطيبة صدقة، وقال: كل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة ” ((الحديث صحيح رواه البخاري/الجهاد والسير/ح (2767). ومسلم/الزكاة/ح (1677). وأحمد/ح (7836)). (المجلد الثاني من مسند ابن حنبل ص 316).
الرأس: أشكرك يا عزيزتي.. ولقد قال رسول الله r في هذا المعنى أيضاً: ” ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة ” (رواه أحمد/ح (16550). وله شاهد في الصحيح). (المجلد الرابع من مسند ابن حنبل ص 129). وقال رسول الله r: “رفعك العظم عن الطريق صدقة، وهدايتك الطريق صدقة، وعونك الضعيف بفضل قوتك صدقة، وبيانك عن الأثم صدقة، ومباضعتك لامرأتك صدقة” (رواه أحمد/ح (20401) وله شاهد في الصحيح) (المجلد الخامس من مسند ابن حنبل ص 154).
البنكرياس: بقي لدي تساؤل واحد فقط أرجو أن تقبله مني.
الرأس: تساؤل واحد فقط؟
البنكرياس: نعم.
الرأس: تعلمين أن لدينا تساؤلات كثيرة أجلناها للحلقة التالية من المحاورة، وليكن هذا التساؤل معها.
البنكرياس: أكرر الرجاء سيدي بأن تسمع مني هذا التساؤل.
الرأس: طيب.. هات ما عندك.
البنكرياس: إن العلم قد سمى العصر التالي للعصر الحجري بالعصر البرونزي، مع أن البرونز خليط من الرصاص والنحاس، وقد كان الرصاص موجوداً والنحاس موجوداً كذلك. فلماذا اختار العالم تسميته العصر البرونزي وليس بالعصر النحاسي أو الرصاصي مثلاً؟
الرأس: ألا ترين أن الحديد أهم من النحاس والرصاص معاً؟
البنكرياس: نعم.. لا شك أن الحديد أهم منهما وأكثر نفعاً للبشرية، ولكن لماذا اختار العالم تسمية العصر التالي للعصر الحجري بالبرونزي بينما كان الأولى أن يسمى بالعصر الحديدي؟
الرأس: إن العالم يسمي العصور بما يكبر في صدور الناس، والظاهر أن البرونزي قد كبر في صدورهم فأسموه العصر البرونزي، وأطلقوا أسماء أخرى على العصور المختلفة بما كبر في صدورهم أيضاً كعصر البخار عصر الكهرباء.. وعصر الذرة.
البنكرياس: صحيح ذلك سيدي.. وإنني أتفق معك على أن التسمية لم تكن كلها علمية، وأن البرونز كبر في صدور الناس فأسموه بالعصر البرونزي.
الرأس: ولكنك لم تطلبي مني هذه المرة دليلاً من كتاب الله أو سنة رسوله كعادتك.
البنكرياس: لا أعتقد أن في كتاب الله أو سنة رسوله ما يتطرق إلى مثل هذه التسميات و تصحيحها.
الرأس: اسمعي يا عزيزتي ما جاء في الآيتين 50 – 51 من سورة الإسراء: ] قل كونوا حجارة أو حديداً ~ أو خلقاً مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً[
البنكرياس: أشكرك سيدي.. لا يزال الله يزيدنا إيماناً و تثبيتاً في عجائب كتابة الكريم التي لا تنقضي، وإني أختم معك أيضاً فأقول: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد. اللهم إني أحمدك حمداً يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك.. سبحانك لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك، وسبحان القائل: ] ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب [.
الرأس: إن الثناء المالئ للسماوات والأرض وما شاء الله من شيء بعد ذلك لا شك أنه ثناء الله على نفسه، ثم ثناء عباده الصالحين لمن له الحمد كله والخلق كله وإليه يرجع الأمر كله، رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وخاتم المرسلين محمد وآله الحمادين الذين أقاموا سنته، واتبعوا نهجه، وسلكوا طريقه، ونشروا دعوته إلى يوم الدين، في العالمين، إنك حميد مجيد.
البنكرياس: أرى أنك تذكر كلمة في العالمين عند الصلاة على آل محمد بعد الصلاة عليه مثبتاً أن كل متبع لمحمد سائر على نهجه القويم – صراط الله المستقيم – هو من آل محمد r.
الرأس: لولا ذلك لكان اليهود ومشركو قريش الذين أتتهم البينة وقامت عليه الحجة بالرسالة الخاتمة – من آل إبراهيم الذين نصلي عليهم في كل تشهد من كل صلاة، وحاشا لله أن يكونوا من آل إبراهيم أو أننا نعنيهم بتشهدنا في صلواتنا، وهم أبعد ما يكونون عن إتباع هديه، وسلوك طريقه مصداقاً لقوله سبحانه: ] إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين [ آل عمران /68. وكما جاء في الآيتين 43-44 من سورة الأحزاب: ] هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً ~ تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجراً كريماً [. ومن المعلوم عن رسول الله r أنه لا يحب أن يتميز بين أصحابه في شيء في حدود استطاعته. وقد ورد كلمة ] في العالمين [ ببعض أحاديثه عن كيفية الصلاة عليه r ((الحديث صحيح. رواه مسلم/الصلاة/ح (613). والترمذي/تفسير القرآن/ح ( 3144)).
البنكرياس: شكراً لك سيدي.. وأرجو منك المزيد.
الرأس: أرى يا عزيزتي أن نكتفي بهذا القدر، على أن نتابع نشر أحاديثنا بإذن الله سبحانه وحسن توفيقه في حلقات متتالية إلى ما شاء الله، نسأله سبحانه أن يمد في الأجل على تثبيت وهدى حتى يتم جميع ما يجش في الخواطر من التساؤلات، مستمدين العون منه سبحانه، ثم العون من عباد الله الصالحين فيما يرونه من إرشادات يتفضلون علينا بها مشكورين، والمرء بأخيه. إن النقد البناء خير وأجدى من مجرد الثناء، وإن المغلوب في العلم هو الغالب لأنه هو مستفيد.
والله سبحانه ولي العلم والتوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل. وأختم الحلقة الأولى من هذه المحاورة بهاتين الآيتين الكريمتين: ] إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتها الأنهار في جنات نعيم ~ دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين [.