البنكرياس: كيف ينفع الله الأمة بمثلي سيدي وأنا كما تعلم ضعيفة؟
الرأس: إن الله سبحانه يضرب الأمثال للناس ببعوضة فما فوقها، وإن كل شيء يسبح بحمده سبحانه وأنت منهم. وقد جاء في الآية الأولى من سورة الحشر: } سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم {. وجاء في الآية 21 من السورة: } لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون {. كما جاء في الآية 31 من سورة الرعد: } ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا {.
الرأس: لعل هذه العوالم المسبحة لله والمتأثرة بآياته سبحانه تعجب كلها من أمر الإنسان الذي حمل الأمانة ولم يحملها كما ينبغي له أن يحملها، وقد أشفقت من حملها كل المخلوقات ما عدا الإنسان. وإذا كنت تشفقين من تضييع الإنسان للأمانة أو تقصيره فيها فقد يمسه عذاب عظيم.
وكلانا جزء من الإنسان الظلوم الجهول لعدم معرفته لأهميته في الوجود ومسئوليته فيه. وإني أعلم أنك بريئة لأني أشعر باحساساتك وأفهم معانيها وأستطيع ترجمتها فاطمئني.. كما أنك تحسين بإشاراتي وأوامري، وقد لا تستطيعين تنفيذها.. ولا مسئولية عليك في ذلك يا عزيزتي لأنك لا إرادية في وظيفتك كما تقدم.
البنكرياس: لكن على من تقع المسئولية؟
الرأس: المسئولية تقع على هذا الإنسان العاقل المريد كما تقدم لك في سياق حديثنا أيضاً.
البنكرياس: ليس لنا إلا أن نتوجه إلى المولى سبحانه بأن يصلح هذا الإنسان ويهدي قلبه، وييسره لمما خلق له، ليحمل الأمانة ويحسن أداءها.. أداء يرضي به ربه وينقذ به نفسه من المسئولية.
الرأس: لله الحجة البالغة، فقد جعل الله هذا الإنسان سميعاً بصيراً وأعطاه المواهب التي تجعله جديراً بحمل الأمانة، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض، ولكن الإنسان كما ترين مقصر مسئول، وكما وصفه كتاب الله.. ظلوم جهول. على أن رجفاتك وإشفاقك على هذا الإنسان هو الشفيع لك عند الله سبحانه فاطمئني يا عزيزتي.
البنكرياس: إن من حسن حظي أنك تترجم رجفاتي إلى كلام يقرأ ويفهم، وأنا لا أعلم عن ذلك شيئاً. وأن المهم يا سيدي هي رجفة قلب هذا الإنسان وشعوره بالقشعريرة.. قشعريرة الإيمان بالمسئولية، وأن تكون هوايته النظر في كتاب الله والتفكر والتدبر في آياته ومعرفة فضل ذلك التفكر والتدرب عند الله سبحانه، وأن يكون هواه تبعاً لما جاء به محمد r.
الرأس: لا شك في ذلك يا عزيزتي، وهذا ما نرجوه.. ولكن الإنسان هو الإنسان وأنه محاسب عن خطئه في حقك فيما لو حملك ما لا تطيقين بسرفه وقلقه وأرقه.
البنكرياس: أبشرك سيدي بان مفكري العالم قد أجمعوا اليوم على أن الإسلام هو أعظم دين سماوي وجد على هذه الأرض، وأن آثاره تدل على ذلك، وسترى بإذن الله أن الناس سيدخلون في دين الله أفواجا وذلك لصوالحهم في الدنيا والآخرة. ولقد تنبأ الفيلسوف العالمي المعروف برنارد شو تنبأ بمثل ذلك. ولا بد أن الناس سيتنبهون أكثر لعظمة الإسلام وما فيه من بصائر وحكم ودراسات علمية قيمة، مصداقاً لقوله سبحانه: } قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ ~ وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون { الأنعام / 104- 105
الرأس: إني لا أشك في صدق نبوءة الفيلسوف العالمي برنارد شو ومن حذا حذوه من الفلاسفة والمفكرين، مصداقاً لقوله سبحانه: } أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً { وأن المسيحيين هم أقرب الناس لنا مودة في العالم أجمع كما جاء في كتاب الله: } لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون { المائدة / 82. ولقد ورد عن السيد المسيح عليه السلام قوله: من ثمارهم تعرفونهم.
البنكرياس: شكراً سيدي.. واسمح لي بالعودة إلى موضوع الاستعاذة حيث يعن لي تساؤل هو: إذا جاءت الفاء بعد “إذا” تكون للترتيب والتعقيب، وأن”إذا” اسم شرط، وأن الفعل المقترن بالفاء هو جواب الشرط، وأن القياس الذي بني عليه من يرى تقديم الاستعاذة قد ثبت خطؤه، فإذا كان الأمر كذلك فمتى تكون الاستعاذة إذن؟
الرأس: علينا قبل كل شيء أن نتدارس الآيات الواردة في الاستعاذة.
البنكرياس: أشكرك سيدي على ذلك وأرجو منك تلاوتها مشكوراً.
الرأس: لقد جاء في الآية 200 من سورة الأعراف: } وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم {، وفي الآية 36 من سورة فصلت: } وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم {، وفي الآية 98 من سورة النحل: } فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم {.
البنكرياس: أشكرك يا سيدي، ولكن ألا ترى تلاوة ما جاء قبل هذه الآيات وما جاء بعدها لزيادة الفهم؟
الرأس: لك ذلك يا عزيزتي. لقد جاء في الآية 199 من سورة الأعراف قبل آية لاستعاذة:
} خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين {، جاء في الآية 201 بعدها: } إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون { وجاء قبل الآية 36 من سورة فصلت: } ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ~ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ~ وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم {.
ولقد جاء في الآيات 94 إلى 97 أي قبل الآية 98 من سورة النحل: } ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ~ ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً إن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون ~ ما عندكم ينفذ وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ~ من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون {. وجاء في الآيتين 99 و100 من سورة النحل – أي بعد الآية موضوع بحث الخلاف في الاستعاذة } إنه ليس له سلطان على الذين أمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون {.
البنكرياس: أشكرك سيدي على هذا الإيضاح.
الرأس: يهمني معرفة ما تبادر لك من ذلك.
البنكرياس: يظهر أن آيات الاستعاذة موجهة كلها إلى رسول الله r، وقد سبق فيما تقدم أن كل أمر موجه من الله عز وجل إلى عبده ورسوله محمد r يكون واجباً عليه، ويكون علينا دون ذلك ولنا في رسول الله أسوة حسنة وقدوة صالحة. كما يظهر لي أن الآيات التي قبل الآية 200 من سورة الأعراف، والآية 36 من سورة فصلت تأمر بمكارم الأخلاق وتنهى عن الغضب ولكن الإنسان بشر وان الشيطان عدو له يتربص به الفرص لجره إلى المعصية ما أمكنه ذلك. وقد بدئت الآيتان بقوله سبحانه: } وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله {. ونزغ الشيطان وإفساده بين الناس وإغراءاته، ولعل الغضب من أهمها، فإذا ما حصل شيء من ذلك أو جاء ذكر الشيطان ونزغه، كانت الاستعاذة واجبة على رسول الله r كي يحفظه المولى سبحانه ويجيره من أي شائبة تشوب خلقه العظيم وإيمانه الكبير، ومن ذلك الحفاظ على العفو والأمر بالمعروف والإعراض عن الجاهلين، كما جاء في الآية قبل الـ 200 من سورة الأعراف، وليكون دائم الذكرى المنيرة والمبعدة لظلمات الشياطين كما جاء في الآية 201 بعدها، وليكون كذلك متمسكاً بمكارم الأخلاق الواردة في الآيات 33 / 35 فبل الآية 36 من سورة فصلت ولنا في رسول الله أسوة حسنة إذ تكون الاستعاذة لنا مستحبة كلما اقتضى الأمر ذلك، لا سيما عند الغضب وكل ما يشوب الأخلاق الكريمة التي لا تليق بالمسلم.
البنكرياس: وهل في إمكان الشيطان التأثير على الأنبياء؟
الرأس: إن الشيطان لا يتأخر فيما لو تمكن من ذلك لأنه عدو الأنبياء، إلا أنه لا يستطيع مجابهة الأنوار القرآنية والهداية الربانية، ولكنه يتربص الغفلة عن الذكرى، على أن مشيئة الله هي الغالبة، وأن عباد الله ليس للشيطان عليهم سبيل. وأذكر لك آيتين من كتاب الله في هذا المعنى: } وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون { الأنعام / 112، } واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه إني مسني الشيطان بنصب وعذاب { ص /41، وكيف أنعم عليه سبحانه بالشفاء العاجل بعد ذلك ووهب له أهله ومثلهم معهم كما جاء في الآيتين 42/43 من سورة ص: } اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب {. كما أن قصة الشيطان مع أبى البشر وأول الأنبياء آدم عليه السلام قد تكررت في كتاب الله – أذكر منها قوله عز وجل في الآيات 61/65 من سورة الإسراء: } وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً ~ قال أرأيت هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً ~ قال إذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ~ واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ~ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا {.
البنكرياس: الشيطان والشجرة..
الرأس: ومال الشيطان والشجرة يا عزيزتي؟
البنكرياس: ألا ترى أنهما سببا البلاء يا سيدي؟
الرأس: إن الله سبحانه قد كرم هذا الإنسان وحمله في البر والبحر وفضله على كثير مما خلق تفضيلاً. وإن الإنسان هو بيت القصيد ومركز الثقل بين جميع الخلائق، وذلك بفضل أوسطيته وحياده الإيجابي، ولا يمكنه الاحتفاظ بهذه الأفضلية لولا وجود السلب المتمم للقاعدة الثلاثية العامة في جميع الأشياء ألا وهي السلب والإيجاب والحياد. إذ لولا السلب الممثل قي الشيطان لبقي آدم وزوجه يتعبدان الله سبحانه في الملأ الأعلى وسط الملائكة الكرام، في جو ومحيط غريبين عليهما باعتبارهما مخلوقين من تراب الأرض. أو في الأرض منقطعين للعبادة كالدراويش لا يأبهون بعمارة الأرض وإصلاحها.
البنكرياس: صحيح سيدي.. فإن العبادة من الإنسان وسيلة إلى خير وتقدم وليست غاية لقوله سبحانه: } واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين { البقرة / 45. وإن مجال آدم هو الأرض التي خلقه الله من أديمها، وقد خلقه سبحانه في أحسن تقويم مزوداً بالسمع والبصر والفطرة السليمة والسجية المستقيمة، والعقل والتفكير والإرادة، وكل المواهب التي تميزه عن باقي الخلائق، ثم هداه النجدين وأبان له عواقب المسلكين وفضل التواصي بالحق والتواصي بالصبر وليحتل مكانة الذي خلق من أجله على هذه الأرض وعمارتها } ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً {.
الرأس: حقاً يا عزيزتي.. وإن كل ذلك يجعل الإنسان مستنيراً – ليس للظلمات سبيل عليه، فإذا انحرف فإن الظلمات تحل تلقائياً عند فقد النور كما تقدم. ولعل إيمانه ونوره وبصيرته تعود إليه كلما ذكر الرحمن وطلب غفرانه بعزيمة صادقة وتوبة نصوح، لأنه سبحانه هو أهل التقوى وأهل المغفرة، فإذا اتقاه العبد وجده سبحانه أهلاً للتقوى، وإن استغفره من ذنب ألم به وجده أهلاً للمغفرة، ثم ما أجمل التقوى والإحسان معاً لقوله سبحانه: } إن الله مع الذين اتقوا والذي هم محسنون {. يكون الإنسان فوق مستوى الملائكة.. وقد يهوى إلى الدرك الأسفل بالخسر كلما بعد عن الإيمان والعمل الصالح كما جاء في سورتي التبن والعصر وغيرهما من سور وآيات كتاب الله، وفي قصة أبينا آدم بالملأ الأعلى عبرة لمعتبر.
البنكرياس: أشكرك سيدي.. لقد فهمت الآن الحكمة من وجود الشيطان بحيث إذا كانت الملائكة الكرام والهداية الربانية وذكر الرحمن – كل ذلك يمثل النور، فإن الشيطان يمثل الظلام، وأن النور يطرد الظلام بينما ينتهز الظلام فرصة غفلة الإنسان عن الأنوار المحيطة به فيحل في الفراغ الخالي من النور.. تلقائياً كسنة كونية. ولعله بذلك يقول سبحانه: } إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاويين { الحجر / 42. وإن شياطين الإنس لا يقل ضررها عن شياطين الجن.
الرأس: أصبت بارك الله فيك.. قال عز وجل: } ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً{
البنكرياس: لقد عرفت سيدي السر في ضرورة وجود السلب المتمم للقاعدة الثلاثية، فما هو السر في تحريم شجرة واحدة على أدم من بين سائر أشجار الجنة؟
الرأس: إن لهذا الحريم سراً آخر عظيماً لا بد منه.
البنكرياس: وما هو هذا السر يا ترى؟
الرأس: لا بد من تحريم ولو شجرة واحدة على أدم وذلك ليكون مع هذه الإباحة الكبيرة في الجنة ولو محظور واجد للتقيد به، وليكون هذا التحريم ضابطاً يعرف فيه آدم ما له وما عليه، ويميز به بين الحلال والحرام، والحق والباطل.
البنكرياس: صحيح سيدي.. وهل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية إلا مباحات ومحظورات وأوامر ونواه وترغيب وترهيب؟ ولكن يهمني معرفة حالة الغفلة التي أحدثت فراغاً عند آدم لتحتلها ظلمات الشيطان تلقائياً كسنة كونية.
الرأس: لعل آدم قد خالف بتفكيره في تلك اللحظات.. فبدلاً من أن يكون التفكير في آيات الله والاعتراف بنعمه الكثيرة.. فقد انصب على مواطن حرمانه – في نظره – وكيف حرم وزوجه من هذه الشجرة، ولماذا حرمت عليهما والى متى سيستمر التحريم؟ وكيف حرما من الطاقة الملائكية؟ ومن الخلود كذلك؟ هذه النواقص الثلاث قد عملت عملها مع آدم بحيث شغلته عن الذكر.. فاحتل الظلام الحيز الخالي من النور، وهذا هو شأن الظلمات.. لا تطرد إلا بالنور مصداقاً لقوله سبحانه: } الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ~ والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات {.
البنكرياس: وكيف عرفت مواطن الحرمان الثلاثة عن أبينا آدم.. الشجرة، والطاقة الملائكية، والخلود؟.
الرأس: يظهر لك من الآية 20 من سورة الأعراف: } فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين {.
البنكرياس: حقاً إن هذه الآية تبين لنا مواطن الحرمان الثلاثة المتقدمة ولكن ألا ترى سيدي أن الآية الكريمة تشتمل على حرمان رابع؟
الرأس: نعم يا عزيزتي.. في الآية حرماناً رابعاً استغله الشيطان عندما أنهما صدقاه واستسلما لإغرائه، فنزع عنهما لباسهما في لحظات الهوس ليبدي عوراتهما. فلم يلق ممانعة منهما لأن في جمال جسم آدم ما يكفي للشيطان مؤونة إغراء حواء.. وكذلك الأمر بالنسبة لحواء
البنكرياس: وماذا يظهر لك من الآيتين 21 و22: } وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ~ فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين {. ألا يظهر منهما أن سوءاتهما بدت لهما بعد ما ذاقا الشجرة؟
الرأس: لا يا عزيزتي.. فلو رجعت للآية 20 لرأيت أن الشيطان قد وسوس لهما ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما قبل أن يغريهما بتذوق الشجرة. وعندما انتهى من مهمته، نكص على عقبيه كعادته قائلاً لهما: إن برئ منكما.. إني أخاف الله رب العالمين. وعند ذلك تنبها إلى خطيئتهما التي تتلخص في أمرين: العري وتذوق الشجرة. ولما لم يكن لهما حيلة في تدارك ما أكلاه من الشجرة.. يبق لديهما من تلاف لخطيئتهما إلا الابتعاد عن الشجرة والمبادرة بستر عورتهما من أوراق الشجر الأخرى، وطلب المغفرة من الغفور الودود سبحانه.
البنكرياس: الحق معك سيدي وما دليلك على أنهما ابتعدا عن الشجرة.
الرأس: يظهر لي قربهما من الشجرة من قوله سبحانه حكاية عن الشيطان } ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة {، وبعدهما عنها.. من نداء ربهما سبحانه عندما سترا عوراتهما: } ألم أنهكما عن تلكما الشجرة {، فـ “هذه” في الآية الأولى تعني القرب، و”تلكما” في الآية الأخرى تعني البعد.
البنكرياس: ولكن هل كان آدم مأموراً باللباس وستر العورة؟
الرأس: نعم.. يظهر ذلك من قوله سبحانه: } إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى { طه /118،
كما يظهر من قوله سبحانه } يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ~ ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون ~ يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون { الأعراف / 26 -27 ، كما يظهر أيضاً من قوله سبحانه في الآية 20 من سورة الأعراف المتقدمة: ] ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما [ أي ما ستر.
البنكرياس: أشكرك سيدي على هذا الإيضاح، ولا غرو فإن القرآن قد أنزله سبحانه مفصلاً بلسان عربي مبين وقد فهمت أن اللباس هو ما يكفي، وأن الريش هو ما زاد على ذلك، وأن خير لباس يلبسه الإنسان هو لباس التقوى , فهل هناك مماثلة بين قوله سبحانه: } ولباس التقوى ذلك خير {. وقوله سبحانه: } وتزودوا فإن خير الزاد التقوى {؟
الرأس: إذا كان لا بد للمسافر من زاد يحمله في رحلته ولا سيما في الصحارى والفلوات، فإنه لا بد للرحلة الطويلة بعد الموت من زاد يحمله المسافر معه في رحلته. وإن الزاد الذي ينفعه في هذه الرحلة هو زاد التقوى. واللباس هنا لستر العورة ولباس العورة لا يستر العورة في الصلاة وغيرها. فما هو لباس التقوى إذن؟
البنكرياس: أنا لا أعرفه وأتركه لك لعل الله سبحانه يفتح عليك.
الرأس (بعد تفكير): الحمد لله.. فقد ظهر لي أن لباس التقوى هو الحد الأدنى الواجب لباسه على الرجل والمرآة في الصلاة والإحرام للحج والعمرة.ولباس الإحرام كما هو معروف – إزار يغطي العورة، ورداء يغطي أحد الكتفين للرجل مع ستر جميع جسد الحرة فيما عدا الوجه والكفين. أما الريش.. فهو ما يزيد عن ستر العورة كما جاء في الآية المتقدمة. ولا مانع من الزيادة على ألا يكون فيها سرف كما جاء في الآية 31 من سورة الأعراف: } يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين {
البنكرياس: يظهر لي من هذه الآية الكريمة أن الإنسان يأخذ زينته المعتادة بكاملها عند كل مسجد، وعليه ألا يسرف في اللباس ولا في الأكل والشرب ولا في أي شيء آخر.. وكما قيل: لا خير في السرف. ولكن ما حكم من يكتفي بزينة شعر رأسه من الرجال ولا يغطيه بكوفية أو عمامة؟ كما أن الحذاء من تمام الزينة، وإن كثيراً من المصلين وإن كانوا تساهلوا أخيراً في كشف الرأس إلا أنهم لا يزالون متشددين في وجوب خلع الحذاء عند دخول المسجد، فما رأيك سيدي في ذلك أيضاً؟
الرأس: لعل التفصيل الذي تطلبينه موجود في الآية 32 من السورة وهي: } قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون {.
البنكرياس: لقد فهمت أن شعر الرجل لا سيما إذا كان مرتباً يعتبر من الزينة، وكذلك الحذاء، هذا ما جاء في كتاب الله الكريم.. فهل ورد في أقوال الرسول r ما يفيد هذا المعنى؟
الرأس: ما دامت الزينة تشمل الحذاء.. فلا مانع من أن يصلي المرء بحذائه ولا سيما أن طهارة الحذاء من النجاسة يكفي لها مسحه بالأرض أو أي شيء آخر ناشف، ولقد جاء في الأثر عن رسول الله r: “ألزم نعليك قدميك. فإن خلعتهما فاجعلهما بين رجليك ولا تجعلهما عن يمينك ولا عن يمين صاحبك، ولا وراءك فتؤذي من خلفك” ((الحديث رواه ابن ماجه/إقامة الصلاة/ح (1422). وضعفه الألباني انظر السلسلة الضعيفة ح ( 988)). ( عن أبي هريرة – سنن ابن ماجه )، كما جاء عن أبي هريرة في سنن أبي داود أن الرسول r قال: “إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه، ولا عن يساره فتكون عن يمين غيره. إلا أن يكون على يسار أحد، وليضعهما بين رجليه” ((الحديث رواه أبو داود/الصلاة/ح (558). وصححه الألباني. انظر مشكاة المصابيح (767)). كما أنه لا يجوز للمرأة تغطية وجهها في الحج، وينصب ذلك على الصلاة أيضاَ حيث لا يجوز للمصلي أن يحمل معه ما يحول بين وجهه وموضع سجوده، وقد جاء في الآية 31 من سورة النور: } ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها.. {، ولعل ما ظهر منها يعني الوجه والكفين.
البنكرياس: شكراً لك سيدي.. وإن الفضل كله لله وحده سبحانه الذي فصل لنا كل ذلك مصداقاً لما جاء في الآية 32 من سورة الأعراف المتقدمة.
الرأس: لقد امتد بنا الحديث وأرجو ألا ينسينا ذلك أن أطلب منك بيان ما ظهر لك من الآية 98 من سورة النحل وما جاء قبلها وبعدها، شأن الآيتين في الاستعاذة بسورتي الأعراف وفصلت.
البنكرياس: أشكرك سيدي، فلقد جاء في الآيتين 96 و97 من سورة النحل قبل الآية 98 ما يحث على مكارم الأخلاق، كما جاء في السورتين الأخريين: الأعراف – فصلت – وذلك في قوله سبحانه: } ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون {، } ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون {. ثم الآية 98: } فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم {. وجاء بعدها في الآيتين 99 و 100 من سورة النحل: } إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون {.
الرأس: بارك الله فيك وحمانا جميعاً من كل شيطان رجيم.
البنكرياس: إن طلب الحماية من الله والاستعاذة بالله من الشيطان مستحبة لكل مؤمن في مناسبتها فيما عدا رسول الله r فإنها واجبة عليه، لأن الأمر موجه إليه في جميع آيات الاستعاذة الواردة في كتاب الله تعالى.
الرأس: صحيح ذلك يا عزيزتي.. إلا أن قارئ القرآن بإيمان وتوكل على الله – ليس للشيطان عليه سلطان كما جاء في الآية 99 من سورة النحل المتقدمة.
البنكرياس: صحيح أن آيات الاستعاذة جاءت كلها بصيغة أمر موجه إلى رسول الله r، وأن من واجبه المبادرة إلى الاستجابة لأمر الله سبحانه، ولكن ماذا يعمل r في حالة قراءة القرآن وتلقي الوحي، وأن الموقف ليس موقف استعاذة لأنه r يستمد النور من ربه سبحانه. من السنن الكونية أن تطرد الأنوار ظلمات الشياطين، ولعل الآية 98 من سورة النحل جاءت حلاً لمعاناة الرسول r وتخفيفاً لحرج موقفه، وتيسيراً له بتأجيل الاستعاذة الواجبة عليه إلى ما بعد التلاوة. ويرى التأخير بعض الصحابة الكرام كأبي هريرة الملازم لرسول الله r كما يراه ابن سيرين ومالك وحمزة وداود وغيرهم.
الرأس: نعم.. إن هذا الفهم سليم ومتماش مع السنة ومفهوم اللغة، وعليه فتكون الاستعاذة سراً بين العبد وربه دون أن تقدم على البسملة بترتيل وتجويد كما هو حاصل فعلاً.
البنكرياس: شكراً لك سيدي.. على أن تساؤلاً يعن لي وهو أنك ذكرت أن الاستعاذة تتأكد عند حصول ما يحدث انحرافاً في مزاج الإنسان أو خللاً في توازنه، أو أن يتهم فيغضب لنفسه بوسوسة الشيطان والعياذ بالله من همزة ولمزة، فيلجأ إلى الله سبحانه بالاستعاذة، فهل لديك دليل على ذلك من كتاب الله؟
الرأس: عندما أتهم قوم موسى نبيهم موسى عليه السلام بقولهم } أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين { البقرة /67. وكذلك في الحوار الذي دار بيت نوح وربه سبحانه حول ابنه – الوارد في الآيات 45-47 من سورة هود، جاء في الآية 47: } قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم , وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين {. ومما يدل على أن الاستعاذة تجب على الرسول r عندما يأتي أي ذكر للمنحرفين عن الطريق السوي، ما جاء في الآية 56 من سورة غافر: } إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير {. ويماثل ما جاء في سورة حم – السجدة – فصلت – الآيات 96 – 98 من سورة المؤمنون: } ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون {.
البنكرياس: لقد جاء في الحديث الشريف برواية الشيخين ما يثبت أن الاستعاذة تتأكد عند الغضب وذلك فيما روي من أنه قد استب رجلان عند النبي r فاشتد غضب أحدهما فقال النبي r: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عند الغضب.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. فقال الرجل: أمجنون تراني؟ فتلا رسول الله r: } وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم { ((الحديث صحيح. رواه البخاري / الأدب / ح (5588). ومسلم / البر والصلة / ح (4725)).
الرأس: ما دمنا قد تحدثنا عن البسملة ثم الاستعاذة بعدها.. ألا ترين أن نتحدث عن الحمدلة التي تأتي مباشرة بعد البسملة ومماثلة لحكمها في التقديم على كل أمر ذي بال؟
البنكرياس: بلى سيدي جزاك الله خير الجزاء.. وأن الحديث ذو شجون يجر بعضه بعضاً.
الرأس: أن الحمد لله رب العالمين تجيء في كتاب الله بعد “بسم الله الرحمن الرحيم”، الذي يعطي معنى العرش في كل أمر ذي بال كما تقدم،وكما جاء في فاتحة القرآن الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. وجاء بعدها: مالك يوم الدين، أي أن الحمد له جاءت قبل الحكم كله والخلق كله فيما يظهر. يؤيد ذلك رسول الله r: اللهم لك الحمد كله والملك كله ولك الخلق كله، وإليك يرجع الأمر كله، نسألك من الخير كله، ونعوذ بك من الشر كله، وما جاء من البسملة والنية ولبس الإحرام في الحج والعمرة: لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك.
البنكرياس: يظهر لي أن الحديث الشريف و التلبية الواردة عن المصطفى r كأنهما مستمدان من سور الفاتحة.
الرأس: سبق أن تقدم لك أن الأحاديث النبوية الصحيحة تكاد تكون كلها مذكرات تفسيرية لما جاء في كتاب الله، بحيث لا يكاد يوجد حديث عن رسول الله إلا وهو مؤيد من كتاب الله ومقتبس منه، وأن تسمية الرسول r “محمدا” مشتق من الحمد وعلة وزن متمم ومكمل.. وهو اسم مفعول من الحمد والإتمام والإكمال، والمحمد المتمم والمكمل هو الله سبحانه مرسله رحمة للعالمين، فاستحق بذلك أن يكون سيد ولد آدم ولا فخر وأن يحمل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، كما جاء في الأثر: أنا سيد ولد آدم ولا فخر، وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر. وقوله r: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وإذا كانت الخلائق تفنى كلها، فإن الحمد لا يفنى لأنه اسم من أسماء الله الحميد المجيد. وإذا كانت الصفتان مجتمعتين تشكلان اسماً من أسماء الله ذي الجلال والإكرام – فإن الحمد والمجد من صفات كمال الحي القيوم لا إله إلا هو.
البنكرياس: لا شك أن الحامدين من العباد يفنون كغيرهم من الخلق، ولكن درجاتهم في الحمد عند ربهم لا تفنى وقد تكون استجابتهم لله يوم القيامة بقدر درجاتهم في الحمد لقوله سبحانه: } يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا { وأن محمداً r في المقدمة الحامدين المستجيبين للدعوة الحقة، حاملاً لواء الحمد يوم القيامة، وإن الله سبحانه محمود مشكور من الخلق كلهم، ومن الملائكة الكرام التي تئط السماء من كثرة تراصهم في السجود لله والتسبيح بحمده. فهل إن إمامة محمد r بحمله لواء الحمد يوم القيامة تشملهم أيضاً؟
الرأس: إن الملائكة الكرام وكذلك حملة العرش يدعون الله سبحانه للمؤمنين وفي مقدمتهم محمد r.. وذلك فيما يتبين من قوله سبحانه في الآية 7 من سورة غافر: } الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم و يؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب جهنم {. وفي الآية 75 من سورة الزمر: } وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين {.
البنكرياس: أزيد أنه قد جاء في الأثر عن الرسول r أنه من المستحب أن يقول المؤمن عندما يصبح أو يمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت ((رواه أبو داود/الأدب/ح (4407). والترمذي/الدعـوات/ح (3423). وضعفه الألباني. انظر ضعيف الجامع (5743)). على أني مؤمنة بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله بأن للعرش حملة، ولكن الآيات والأحاديث لا تقول أنهم ملائكة، ويجئ ذكر الملائكة معطوفاً على حملة العرش، والظاهر أن لحملة العرش صفات كصفات الملائكة من التسبيح بحمد ربهم والدعاء للذين تابوا بالمغفرة كما تقدم في الآية 75 من سورة الزمر، والله سبحانه هو العلام الحكيم. على أن تساؤلاً يجول في خاطري وهو: من هم حملة العرش؟
الرأس: إن على المسلم.. الإيمان بأن للعرش حملة سواء كانوا ملائكة أم غيرهم، ولله سبحانه الخلق والأمر وهو على كل شيء قدير.
البنكرياس: لا شك أن العلم عند الله سبحانه وهذا أمر لا يختلف عليه اثنان، ولكن الله سبحانه قد وهب عباده مواهب جمة عليهم استعمالها بدون تكلف لعل الله عز وجل يوفقهم للحق والصواب.
الرأس: علينا أن نتذكر آيات كتاب الله، لعل الله سبحانه يفتح علينا وهو الفتاح العليم، فهل لديك شيء من ذلك؟
البنكرياس: لقد جاء في الآيات 13-17 من سورة الحاقة: } فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة ~ وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ~ فيومئذ وقعت الواقعة ~ وانشقت السماء فهي يومئذ واهية ~ والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية {.
الرأس: أحسنت.. ومما لا شك فيه أنه يوم ينفخ في الصور، تدك الأرض والجبال وتنشق السماء والملك على أرجائها، فلا أرض ولا سماء ولا ملائكة ولا خلائق، على أن الذي يستوقفني هو أن حملة العرش ثمانية لا يفنون يوم القيامة – يوم الفناء الكلي للخلق كله. فمن هم هؤلاء الذين لا يتطرق إليهم الفناء العام؟ ولماذا يا ترى حصر العدد بثمانية مع أن جنود الله سبحانه لا يعلمها إلا هو؟
البنكرياس: صحيح يا سيدي.. لأن الملائكة كانوا على أرجاء السماء وشملهم الفناء العام الكلي معها ككل كائن حي، فلو كان حملة العرش من الملائكة لشملهم الفناء أيضاً.
الرأس (بعد فترة تفكير): أرجو أن أكون وجدتها.. إن كلمة “الحمد لله” تتكون من ثمانية حروف، فهل يكون ذلك صدفة أو أنه تأييد لما تقدم من أن “الحمد لله” ملء السماوات والأرض وملء ما شاء الله من شيء بعده، وأن الفناء لا يتطرق إليه، وإن “الحمد لله” قبل الخلق وقبل الملك وبعد ذلك، وهو سبحانه غني عن الخلق كلهم بحمده الذي لا يفنى.
البنكرياس: عفواً سيدي.. إن القرآن العظيم لا تتطرق إليه الصدفة لأنه منزل بعلم الله الكلي اللانهائي الأزلي المطلق، وأن الملائكة والخلق كلهم يشملهم قوله سبحانه: } كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام {، ثم إذا لم يكن الثمانية – الحمد لله – فماذا يكونون إذن؟ ومما لا شك فيه أن الله سبحانه الذي أمرنا بأن نفكر في آيات كتابه العزيز لم يقل: ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية – إلا ويريد من الإنسان التفكير في ذلك.
الرأس: نعم.. تفنى السماوات والأرض ويفنى كل شيء ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام،ولا مناص لنا من القول بأن كرسي الرحمن الذي وسع السماوات والأرض محمول بأمره سبحانه وقدرته، } إن الله غني عن العالمين {، مع أنه لا يتعارض مع عقيدة التوحيد القول بأن الثمانية تعني: الحمد لله.
البنكرياس: إنني أقول معلنة إيماني بأن الثمانية حملة العرش هم “الحمد لله” ولا أرى غير ذلك ولا أعتقد أن من يقول غير ذلك يرتكز على دليل ما، والله سبحانه ولي العلم والتوفيق.
الرأس: استغفري ربك إذ لا يجوز تقييد كلمات الله سبحانه بمعنى محدد، بل على الإنسان أن يقول متأدباً: قد تشتمل الكلمة الكريمة أو الآية القرآنية العظيمة على هذا المعنى، لأن القرآن العظيم لا تنقضي عجائبه، وهو رسالة الله الخالدة ومأدبته الدائمة ما دامت السماوات والأرض.
البنكرياس: استغفر الله العظيم وأتوب إليه.. ولكنك قلت لي سيدي أنه إذا صح الدليل فإنه مذهبك ومذهب السلف الصالح وكل من اتبعهم إلى يوم الدين.
الرأس: نعم قلت وما زلت أقول ذلك.. وإذا كان لديك دليل فأدلي به مشكورة.
البنكرياس: لقد فهمت منك أن صفتي الحمد والمجد التين هما صفتان من صفات كمال الله. فإذا ما اجتمعتا شكلتا اسماً من أسماء الله ولا يجوز إطلاقهما مجتمعتين على مخلوق ما، كقولك في التشهد بعد الصلاة على النبي r: إنك حميد مجيد. وكذا “الغني الحميد” صفتان مجتمعتان أيضا لا يجوز إطلاقهما على مخلوق ما.. وإني أرى صفة الحميد تأتي محل العالمين في كثير من آيات كتاب الله، ومما لا شك فيه أن الملائكة الذين هم جند الله، هم من العالمين، وإنه سبحانه غني بحمده عنهم وعن الخلائق كلها وهو الغني الحميد سبحانه جل ثناؤه، وعم آلاؤه، وتباركت أسماؤه لا إله إلا هو.
الرأس: هل لك أن تشيري إلى بعض آيات كتاب الله في هذا المعنى يا عزيزتي؟
البنكرياس: نعم.. أذكر منها: } إن تكفروا انتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد { إبراهيم / 8. } ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه { أن الله لغني عن العالمين العنكبوت / 6. } إن تكفروا فإن الله غني عنكم { الزمر /7. } ومن كفر فإن الله غني عن العالمين { آل عمران /97. } يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد { فاطر /15.
الرأس: إن في القول الوارد عند الرفع من الركوع : ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء من بعد – تأييداً لما ظهر لك، والله سبحانه ولي العلم والتوفيق.
البنكرياس: أن من أكبر الأدلة، أن الله سبحانه قد بدأ كتابه الكريم بـ ” بسم الله الرحمن الرحيم وهذا الاسم الذي له العلو في المكان والمكانة، وهو العرش لكل أمر ذي بال كما تقدم، فقد جاء تالياً لهذا الاسم الأكبر – قوله سبحانه: } الحمد لله رب العالمين {، كما جاء في مستهل سورة فاتحة الكتاب.. علماً بأن للحمد لله حكم البسملة في التسنم بعدها على كل أمر ذي بال كما ورد في السنة المطهرة. وقد استهلت بعض سور أخرى من كتاب الله بالحمد لله بعد اسم الرحمن الرحيم.
الرأس: وهل لك أن تسيري إلى السور المبدوءة بالحمد لله؟
البنكرياس: مستهل سورة الأنعام: } الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون {. ولعل في الآيات بعدها تفصيلاً وتبياناً لهذه المعاني القيمة. ومستهل سورة الكهف: } الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. قيماً لينذر بأساً شديداًمن لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات وأن لهم أجرا حسناً { وفي الآيات بعدها تفصيل وبيان للمعاني القيمة كذلك. ومستهل سورة سبأ: } الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير {.
الرأس: نقف قليلاً هنا لعل فيهما يؤيد هذا المعنى الذي نحن بصدده.
البنكرياس: نعم. إن لله ما في السموات والأرض وما في الأرض وينفرد سبحانه بالحمد، وفي الآخرة عندما يقضي سبحانه على السموات والأرض وما بينهما وهو الغني الحميد.
الرأس: أحسنت.. واصلي.
البنكرياس: لو تأملنا مستهل سورة سبأ لوجدنا فيها العلم كله: } عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ~ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم~ والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم {، أي بنفس المعنى الذي جاء في سورة الفاتحة. وإن فيما جاء بعد ذلك من الآيات تأييداً وتبياناً للمعنى أيضاً. وكذلك فلو قرأنا سورة فاطر حتى الآية السابعة لوجدنا نفس المعاني التي جاءت في سورة الفاتحة
الرأس: شكراً يا عزيزتي.. إن القرآن العظيم يبين بعضه بعضاً كما تقدم لك، وماذا عندك من الآيات عن الحمد في الآخرة أو عند النهاية الأولى للأقوام الذين قامت قيامتهم بعذاب من عند الله؟
البنكرياس: لقد جاء في الآيات 43-44 من سورة الأنعام: } فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ~ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين {.
الرأس: أحسنت.. إن الحمد لله سبحانه في الدنيا والآخرة وفي كل وقت وحين. } وهو الله لا إله وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون {.
البنكرياس: لقد ذكرت فيما تقدم أن الصفتين من صفات الله تشكلان مجتمعتين اسماً من أسماء الله سبحانه، فما دليلك على ذلك؟
الرأس: إن أسماء الله لا يكون لها سبيه في أسماء الآخرين مصداقاً لقوله سبحانه: } هل تعلم له سميا ً{؟ وأسماء الله هي: الله والرحمن.. وكل اسم يشعرك بالجلال، أو يشعرك بالجلال والإكرام وما عدا ذلك فإنها صفات لا يجوز استعمالها في محلها لمن يستحق النعت بهذه الصفات من الخلق، كأنك تقول الأخ الكريم أو الأخ العزيز. ولكن الصفتين مجتمعتين تشكلان اسماً من أسماء الله الحسنى لا يجوز تسمية أحد بهما مجتمعيتين، وأن من ادعى أنه العزيز الكريم أذاقه الله عذاب النار كما جاء في الآية 49 من سورة الدخان: } ذق أنك أنت العزيز الكريم {. ذق وبال ما ادعيته باطلاً بغير حق، يؤيد ذلك قوله جل شأنه: } وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم {.
البنكرياس: إذن يجوز أن يوصف إنسان بأنه يغفر ويعفو ويصفح كما هو ظاهر من هذه الآية.
الرأس: نعم، هذه الصفات كلمات تعارف الناس عليها في أحاديثهم، ولكن لا تجتمع صفتان لمخلوق علماً بأن المثل الأعلى هو لله وحده، والصفة عندما تنسب إلى الله سبحانه فإنها تكون صفة كمال مطلق، وصفاته سبحانه، أزلية كأزلية الموصوف بها } ليس كمثله شيء وهو السميع البصير {، وإن الله سبحانه على كل شيء قدير. ولكن عندما تطلق الصفة على إنسان ما، تكون محدودة كعبد ضعيف. ومن ختام الآية: } فإن الله غفور رحيم {، ويتبين أن الصفتين المجتمعتين تشكلان اسماً من أسماء الله الحسنى، لا تجوز التسمية أو الوصف بهما لأحد من خلقه سبحانه.
البنكرياس: لقد وصف الله سبحانه رسوله r بقوله: } بالمؤمنين رءوف رحيم {.
الرأس: لقد تقدم لك أم دعاء الرسول r ليس كأحد من الناس وأن الله سبحانه لا يسأل عما يفعل، علماً بأن صفة الرأفة وصفة الرحمة يكاد يكون معناهما واحداً. وقد جاء في ذكر الرهبان الصادقين من أتباع السيد المسيح: } وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها.. { الحديد / 27.
البنكرياس: إذا كانت كلمات: كريم، وعزيز، وعفو – صفات تطلق على الإنسان أيضاً، وقد ورد عن المصطفى r “إن لله تسعاً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة” ((الحديث صحيح رواه البخاري/الشروط/ح (2531). ومسلم/الذكر والدعاء/ح (4836) والترمذي/الدعوات/ح (3428))، وقد عرفنا اسم الله واسم الرحمن أنهما من أسماء الله، وكذا كل اسم يشعر بالجلال والإكرام مثل: أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وخير الرازقين ورب العالمين، وكلها أسماء تشعر بالجلال والإكرام أفلا ترى أنه لا بد من إحصاء جديد لأسماء الله الحسنى؟ وإذا كنت ترى ذلك فكيف يكون الإحصاء الجديد؟
الرأس: نعم، إنه كما قال سبحانه: } قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعو فله الأسماء الحسنى {. وهما أي اسم الله واسم الرحمن.. اسمان من أسماء الله، والرحيم وإن كان صفة من صفات كمال الله سبحانه، إلا أن وجوده مع اسم الرحمن يشكل اسماً واحداً “الرحمن الرحيم” – ككل صفتين من صفات كمال الله تشكلان اسماً من أسماء الله سبحانه كالغني الحميد، والسميع البصير، والعزيز الحكيم، والغفور الرحيم. على أنه يشعر بإجلال والإكرام: بعض الصفات التي تأتي بصيغة الاستمرار والدوام مثل: قيوم، وسبوح، وقدوس، وكذا صيغة المبالغة إذا كانت تشعر بالجلال والإكرام كغفار ورزاق. وإن اسم الرحمن يشتمل على الجلال والإكرام، ولقد افتتح الله بهذا الاسم المبارك سورة الرحمن واختتمها يقوله سبحانه: } تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام {. ولا يجوز تسمية أحد من خلق الله بهذا الاسم.
البنكرياس: لعله لا يزال الإحصاء مطلوباً على هذا الأساس، ومن أحصى أسماء الله فإنه مضمون له الجنة.
الرأس: إننا كعادتنا نعرض ولا نفرض، على أن إحصاء أسماء الله الحسنى بهذه الطريقة سليم لا يتعارض مع الفطرة السليمة والتوحيد الخالص، فطوبى لمن وفق لإحصاء أسماء الله الحسنى كما يريده الله سبحانه.
البنكرياس: إنني أعتقد أن الإحصاء الجديد يزيل اللبس والإضمار السيئ، ولا سيما أنه قد سمي الكثيرون بعبد الأول وعبد الآخر، وعبده، وعبد الظاهر وعبد الباطن.. إذ من البديهي أن التسمية بعبد الأول تشعر السامع بأن لكل أول ثانيا ُ، كما لو قلت عبد الآخر.. فيشعر السامع أن للآخر أولاً هكذا.. وعليه فإن الآية الكريمة يجب أن تقرأ بكاملها، ولا يجوز التفرقة بين الصفات المتكاملة فيها، بل يجب اعتبارها اسماً واحداً ينفرد به المولى سبحانه، وهي كما جاء في الآية 3 من سورة الحديد: } وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم {.
الرأس: وماذا يكون الأمر لو سمينا عبد الواحد؟
البنكرياس: لا شك أن الله سبحانه واحد لا إله إلا هو ولا معبود بحق سواه، إلا أن كلمة ” واحد” إذا كانت مجردة من الإضافة عليها بصفة من صفات كمال الله تبين هذه الوحدانية كقولك: الواحد الأحد أو الواحد الصمد أو الواحد القهار – فإنها تعطي معنى القلة، وهذا لا يجوز بحق الله سبحانه فيما اعتقد.
الرأس: لكن الله سبحانه افتتح سورة الإخلاص بقوله: } قل هو الله أحد {.
البنكرياس: إن كلمة “أحد” لا تعطي معنى كلمة “واحد” إلا إذا كان العدد مركباً كقولك: أحد عشر، أو إحدى وعشرين، أو مضافا ًكقولك: أحد القوم أو إحداهن. على أن كلمة “أحد” إثبات والنفي: لا أحد، كأن تقول في حالة الاستفهام: أفي البيت أحد؟ وقد يأتي الجواب: ليس في البيت أحد، أو: نعم في البيت أحد. وكلمة أحد هنا تعني النعت من الذوات العقلاء لا العدد، ويماثلها استعمال كلمة “شيء” فيما لا يعقل كالأثاث والمتاع مثلاً، كأن يقال: أفي البيت شيء؟ وقد يأتي الجواب: نعم في البيت شيء أو فيه كذا وكذا من متاع وحيوان أو أي شيء، أي أنها تختص بما لا يعقل.
الرأس: صحيح ذلك يا عزيزتي ومتماش مع الفطرة السليمة.. وأزيد على ذلك أنك أتيت بحالات الإثبات والنفي والاستفهام، على أن هناك حالة رابعة تستعمل فيها كلمة “أحد”، وهي حالة التحدي.. كقول: ليس أقوى من أحد، أو لا يقدر علي أحد. ولكن الجواب الذي يفرض نفسه هو أن الله سبحانه أقوى منك ويقدر عليك كما جاء في الآية الرابعة من سورة البلد: } أيحسب أن لن يقدر عليه أحد {، وكذا في الآية السادسة من السورة: } أيحسب أن لم يره أحد {. ويماثل كلمة “أحد” كلمة “من” كقول: من أقوى مني.. أو من يقدر على من يراني؟ والجواب الذي يفرض نفسه هو نفس الجواب بالنسبة لكلمة “أحد”.. وهو أن الله سبحانه أقوى منك ويقدر عليك ويراك. وقد جاء في كتاب الله هذا المعنى – الآية 5 من سورة فصلت: } فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون {.
البنكرياس: أشكرك سيدي، وقد تبين أن كلمة “أحد” في حال استعمالاتها الأربع تعطي النوع سواء كان العدد واحداً أو أكثر، ولا تستعمل إلا للذوات العقلاء. وعليه يظهر من قوله سبحانه: } قل هو الله أحد { بصيغة الإثبات – أن الله سبحانه واجب الوجوب في كل مكان يليق بجلال قدسه، وإنه ليس شيء وهو السميع البصير.
الرأس: حقاً بارك الله فيك، فإن الآيات الباقية من سورة الإخلاص تؤكد هذا المعنى.
البنكرياس: أشكرك سيدي، وأرجو أن تتفضل ببيان ذلك ولك من الله سبحانه أحسن الجزاء وأجزله.
الرأس: لقد جاء في الآية 2: } الله الصمد {، ولعل الآية تفيد المعنى الذي ذهبت إليه وهو أن الله سبحانه صامد للوجود كله إذ لا يوجد مكان يليق بجلال قدسه إلا وهو موجود فيه، ولك يكن له ند أو ضد أو والد أو ولد ينازعه أو يشاركه في ملكه سبحانه لا إله إلا هو. يؤيد ذلك ما جاء في الآيتين 3-4: } لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفواً أحد {.
البنكرياس: أشكرك سيدي، وإن خير الأسماء بالتعبيد هي: عبد الله وعبد الرحمن كما ورد في الحديث الشريف.
الرأس: صحيح يا عزيزتي، بارك الله فيك.
البنكرياس: أراك كلما ذكرت اسم الله الرحمن الرحيم – وصفته باسم الله الأكبر، فهل هذا اجتهاد أم أن لك سنداً من كتاب الله وسنة رسوله؟ أرجو توضيح ذلك مشكوراً.
الرأس: إنه وإن كان الاجتهاد مطلوباً وأن المجتهد الصادق لا يحرم من أجر واحد فيما لو أخطأ، ومن أجرين فيما لو أصاب، إلا أنني أعتمد في كل ما أقوله على الدليل من كتاب الله وسنة رسوله ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.البنكرياس: وما دليلك سيدي؟
الرأس: لقد سأل عثمان بن عفان رضي الله عنه رسول الله r عن اسم “الرحمن”، فقال r: “هو اسم من أسماء الله ما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العينين وبياضهما من القرب” ((الحديث ضعيف رواه الحاكم في المستدرك/ فضائل القرآن/1/ 552 وصححه وسكت عنه الذهبي وقال عنه ابن أبي حاتم في العلل 2/178/ ح (2029): وهو حديث منكر)). أي في الوسط بين لفظ الجلالة – والرحيم كما تقدم، والله سبحانه هو العلام الحكيم.
البنكرياس: شكراً لك سيدي، ولكن ما علاقة العينين باسم الله الأكبر؟
الرأس: لقد مر عليك قوله عز وجل: } ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت { الملك / 3، ولعل النموذج الجامع للخلق كله هو شكل العين لأن البياض فيها بشكل العمى والظلام، وأن السواد يشكل النور والإبصار في الوسط الأعلى من العين.
البنكرياس: أرجو زيادة الإيضاح جزاك الله خير الجزاء.
الرأس: إن المولى سبحانه وصف نساء الفردوس بالحور العين، والحور العين يوجد في العين أيضا َ، ووصف سبحانه شراب الجنة بقوله جل شأنه: } يسقون من رحيق مختوم. ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. مزاجه من تسنيم. عيناً يشرب بها المقربون {. فإذا كان الرحيق من البياض أو الصفار، والمسك هو السواد ممتزج بهذا البياض أو الصفار من تسنيم – أي في الوسط الأعلى – فإنه يشبه بذلك العين مصداقاً لقوله عز وجل: } عيناً يشرب منها المقربون { وقوله جل شأنه: } كأنهن بيض مكنون {، فالبيضة بصفارها وبياضها، وفي استطالتها قريبة الشبه بالعين، والله سبحانه ولي العلم والتوفيق.
البنكرياس: إن الآية التي تستشهد بها وهي الآية الثالثة من سورة الملك، تتعلق بالخلق كله وهذا أمر وارد لا خلاف عليه، فالسماوات مكونة من سبع طبقات وكذلك الأرض، وحتى الذرة لها سبعة مستويات وكذلك العين في سوادها وبياضها وطبقاتها، وهذا للمثال لا للحصر، إلا أن الله سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
الرأس: الحق معك يا عزيزتي، وجل من لا يخطئ، وما علي إلا أن أبادر بالاستغفار مقداراً لتنبيهك إياي على هذا الخطأ.
البنكرياس: أرجو أن تخطئ مع الخطأ بالأجرين معاً أجر الاجتهاد الصادق واجر الاستغفار مع العودة إلى الحق عندما يتضح.
الرأس: إنه وزر وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يغفره.
البنكرياس: ومن يغفر الذنوب إلا الله. وقد ورد عن المصطفى r أحاديث كثيرة في هذا المعنى أذكر منها: “إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما” (رواه الترمذي/ تفسير القرآن/ح (3206). وقال: هذا حديث حسن صحيح).
الرأس: أشكرك، عجلي لي بهذا الفرج، وليتول الله سبحانه جزاءك بالخبر العميم وتوفيقك للفهم القويم.
البنكرياس: لقد كان جواب رسول الله r عندما سئل: “أين كان ربنا عز وجل قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء، ثم خلق عرشه على الماء” ((رواه الترمذي/تفسير القرآن/ح (3034). وابن ماجه/المقدمة/ح (178). وأحمد/ح (15599) وضعفه الألباني. انظر مشكاة المصابيح ح (5735)). (باب مقدمة ابن ماجه والمجلد الرابع من مسند ابن حنبل – ص11).
وفي رواية أخرى: “أين كان ربنا عز وجل قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ثم خلق عرشه على الماء”. (المجلد الرابع من مسند ابن حنبل ص12)، ولا شك سيدي أن الله سبحانه نور السموات والأرض لقوله جل شأنه: } الله نور السموات والأرض {. ألا ترى أن في ذكر النور والعمى ما يشير إلى العين، وأن النور المالئ للوجود هو نور الله سبحانه لا إله غيره ولا معبود بحق سواه. } هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً { الأحزاب / 43.
الرأس: صحيح ذلك يا عزيزتي، وأنه كما جاء في الآية 40 من سورة النور: } ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور {، بل يبقى في الظلم والظلمات والعمى – بكل ما في الكلمة من معنى وقانا الله سبحانه وأنذرنا من وفوقنا ومن تحتنا وعن إيماننا وعن شمالنا ومن أمامنا وخلفنا وأعطانا سبحانه نوراً نهتدي به في التأمل بآياته العظام وألا يجعلنا من الذين كانوا عن آياته غافلين، إنه سبحانه هو السميع المجيب.
البنكرياس: ولقد ورد عن المصطفى r: “إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه في وسط الجنة وأعلاها وتنفجر منه أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن” (الحديث صحيح رواه البخاري/الجهاد والسير/2581. الترمذي/ صفة الجنة/2453. أحمد/8067). أفلا ترى أن في تسنم الفردوس فوق الجنة وتحت عرش الرحمن وتفجر أنهار الجنة منه – ما يجوز تسميته بعين الجنة وذروة سنامها؟
الرأس: أشكرك يا عزيزتي، ولكنها ليست جنة واحدة بل جنان كثيرة. وأن مما يؤيد هذا المعنى أن العين تأتي بالمفرد في كتاب الله كلما جاء ذكر الجنة مفرد كقوله سبحانه: } فيها عين جارية { وبالمثنى إذا جاء ذكر الجنة مثنى كقوله سبحانه: } فيهما عينان جاريتان {، وكذا إذا جاء ذكر الجنة بالجمع كقوله سبحانه: } إن المتقين في جنات وعيون {، فما رأيك في ذلك يا عزيزتي؟
البنكرياس: الذي يظهر هو أن العين غير الأنهار، لأن الأنهار كثيرة متعددة لتكرار قوله عز وجل: } جنات تجري من تحتها الأنهار {، أما العين فهي موحدة في جميع الجنان، والظاهر أنه كلما تعددت الجنان.. تعددت العيون معها، إذ أن لكل جنة عيناً واحدة تتفجر منها الأنهار بنمط يقرب من نمط الفردوس، مع تفضيل الفردوس الأعلى في الدرجات على باقي الجنان، والله سبحانه أعلم بما يريد.
الرأس: أشكرك يا عزيزتي، وأكرر ما تقدم من أن الإنسان لا يملك إلا أن يعرض ما يظهر له من المعاني الجديدة والعجائب الظاهرة والعلوم الثابتة – مع الدليل القرآني والسنة المطهرة، لأن القرآن العظيم موسوعة، وهو كتاب الزمن كله لأنه منزل بعلم الله اللدني الأزلي المطلق اللانهائي مصداقاً لقوله جل شأنه: } ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله {.
البنكرياس: إن تساؤلاً يجول في خاطري ويهمني أن أسألك إياه ولا سيما أنك تعتمد على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، وأنك كثيراً ما تبتعد عن قيل وقال، في غير ذلك، كما أنك لا تتكلف المعاني ولا تحمل الكلمات ما لا تحتمل.
الرأس: أشكرك يا عزيزتي..أرجو أن أكون عند حسن ظنك.. فهات ما عندك.
البنكرياس: إن الله سبحانه مع علوه المطلق اللانهائي الذي يؤمن به كل إنسان بفطرته، فهل إنه سبحانه عندما يكون مع المتناجين في الأرض وفي كل مكان يليق بجلال قدسه – يكون محتفظاً بالعلو المطلق اللانهائي؟
الرأس: ماذا تقصدين بالمتناجين؟
البنكرياس: أقصد ما جاء في قوله سبحانه: } ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم ولا خمسة إلا وهو سادسهم ولا أدني من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم { المجادلة/ 6.
الرأس: أحسنت بارك الله فيك، على أن الذي أعتقده ويعتقده كل مؤمن موحد.. أن الله سبحانه ينفرد بالعلو المطلق اللانهائي من غير بعد، وبالوحدانية القهارة الأزلية اللانهائية المطلقة،الموصفة بكل صفات الكمال والمنزهة عن جميع صفات النقصان من غير قلة.
البنكرياس: هذا معلوم ولا خلاف عليه، إلا أنني أحدد سؤال وهو: هل إن الله سبحانه عندما يكون قريباً من عباده المؤمنين..هل يكون محتفظاً بالعلو اللانهائي المطلق؟
الرأس: لقد جاء في سورة الإخلاص أن الله سبحانه أحد صمد، أي كما أنه أحد فإنه صامد للوجود كله بحيث لا يغيب عن علمه ذرة واحدة في السماء أو في الأرض أو أصغر من ذلك أو أكبر.. وأنه ليس قي الوجود مكان لكفؤ له سبحانه أو ضد أو ند أو والد أو ولد، ولا يخلو منه مكان يليق بجلال قدسه.
البنكرياس: أشكرك سيدي.. هذا سليم أيضاً إنما سؤالي…
الرأس (مقاطعاً): إن كل أجوبتي تشتمل الرد على سؤالك، ولكنك تريدين جواباً مخصصاً، فإليك ما يظهر لي: لقد جاء في سورة النجم قوله عز وجل: } وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلي. فكان قاب قوسين أو أدنى. فأوحى إلي عبده ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأي. أفتمارونه على ما يرى {.
البنكرياس: نعم هذا ما أردته.. فهل أن الدنو مع التدلي معناه أن التدلي كان مع الاحتفاظ بالمكانة العلوية؟
الرأس: إن الإدلاء لغة لا يجوز في شيء إلا مع الاحتفاظ بالمكانة العلوية.. وإلا فقد يعتبر تحولاً أو سقوطاً، فإذا تدلت عناقيد العنب فذلك معناه أنها معلقة بالشجر، ولذا تسمى أشجار العنب بالدوالي. وكل شيء متدل يكون متدلياً من الأعلى إلي الأدنى. ومن ذلك إدلاء الدلو.. معناه إنزالها إلى البشر في الأسفل مع الاحتفاظ بالحبل من الأعلى. (ولله المثل الأعلى ).
البنكرياس: لقد ورد في الآيات 13-15 من سورة النجم: } ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى. عندها جنة المأوي { ، فما هي النزلة الأخرى سيدي؟ وهل أن اللقاء بين المولي سبحانه وعبده ورسوله محمد r حصل مرتين.. نزلة في الأرض مثلاً، ونزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى؟
الرأس: إذا أراد الله إكرام عبده بمثل ذلك فلا راد الحكمة ولا مانع لفضله سبحانه وهو على كل شيء قدير. ولعل النزلة الأخرى هي المعراج الذي حصل في الليلة التي أسري الله فيها بعبده ورسوله محمد إلي بيت المقدس.
البنكرياس: إن النزلة الأولى إذن كانت قبل المعراج في ليلة الإسراء؟
الرأس: هذا يظهر، والله سبحانه هو العلام الحكيم.
البنكرياس: ولكن سيدي ما هي سدرة المنتهي؟
الرأس: لاشك أن علمها عند الله سبحانه.